الثلاثاء 5 أغسطس 2025 أبوظبي الإمارات 33 °C
مواقيت الصلاة
أبرز الأخبار
عدد اليوم
عدد اليوم
الترفيه

الباقلاني: إمام المتكلميـن

الرسمة متخيلة من وحي الموضوع ولا تمثل الشكل الحقيقي للشخصية
29 ابريل 2020 00:19

مشاعل.. في تاريخ الفكر الإسلامي
نحتاج إلى لحظة تأمل في تراثنا الحضاري الإسلامي.. لحظة ندرك من خلالها هذه اللمحات المضيئة التي ساهم بها العديد من المفكرين العرب والمسلمين من خلال علمهم وأفكارهم، لا لكي نرتكن إليها، ولكن من أجل الاسترشاد بها في الاستعداد للمستقبل والتميز في الحاضر، والانطلاق من المفيد منها أولاً ونتائج منجزات العصر ثانياً.
يعد الباقلاني، القاضي أبوبكر محمد بن الطيب «ت 403 هـ»، أول متكلم أفرد في مؤلفاته مقدمات أسهب فيها في الحديث عن المعرفة ووسائلها وشروطها. وإذا كان الباقلاني يعد من مؤصلي الفكر الأشعري، فإنه لم يكن مجرد مواصل لحمل تراث المتقدمين عليه، بل تم على يديه توضيح بعض النقاط وتحديد بعض المفهومات، مما أدى إلى تعديل مذهب الأشاعرة من بعض الوجوه، بل وإلى تقريبه أحياناً من رأي المعتزلة.
فقد ذهب الأشعري إلى أن الفعل مكتسب للعبد بالقدرة الحادثة التي يخلقها الله فيه مقارنة للفعل، ولم يجعل لهذه القدرة الحادثة أي فعالية في الفعل نفسه.. إلا أن الباقلاني، على العكس من ذلك، ذهب -متأثراً في ذلك بالمعتزلة- إلى إثبات تأثير للقدرة الحادثة في حال الفعل.
وبحسب تعبير الباقلاني، فإن تحويل الحركة المخلوقة لله والمكتسبة من العبد، إلى طاعة أو معصية، فهي: «تلك الجهة المتعينة لأن تكون مقابلة بالثواب والعقاب. فالوجود من حيث هو وجود لا يستحق عليه ثواب وعقاب، وإن جهة الحسن والقبح هي التي تقابل الجزاء. والحسن والقبح هما صفتان ذاتيتان وراء الوجود. فالموجود من حيث هو موجود ليس بحسن ولا قبيح».

الإنسان مسؤول عن قبح الفعل وحسنه
وفي ما يبدو، هكذا، ينتهي الباقلاني إلى تحميل الإنسان مسؤولية قبح الفعل وحسنه، ونفي ذلك عن الله نفياً تاماً. وبذلك نجح في سد الثغرة التي كانت قائمة بين «العدل»، و«التوحيد»، وأخضع كل ما يحدث في العالم لإرادة الله الشاملة.
وتبعاً لهذه الرؤية، فهو يذهب من جانب إلى أن مسألة الرؤية، رؤية الله سبحانه وتعالى، قائمة وتحصل بالإدراك، وبحسب قوله، فإن الله سبحانه: «لا يُرى بالعين، وإنما بالإدراك الذي يُحدثه الله تعالى في العين، وهو البصر».
وبصرف النظر عن كون تحليل الباقلاني هذا، ليس به تحديد لعملية البصر التي تحصل بوساطة جهاز العين، إلا أن ما يمكن استنتاجه، هنا، هو اعتماد الباقلاني الواضح لمقولات المذهب الأشعري، من حيث: «إن الله قادر على أن يخلق هذا الإدراك في كل وقت وحين، ومتى يشاء»، وبالتالي: «فهو قادر على أن يخلق في عين الأجهر العمياء الإدراك لرؤيته تعالى».
وهو، من جانب آخر، وإضافة إلى رؤيته في أن معجزات الأنبياء عليهم السلام جميعاً ليست من ذاتهم، وأفعالهم ليست بإرادتهم دون إرادة الخالق، فهو يرى بناءً على مسألة القدرة الإلهية -أن هناك فرقاً بين مسألتين: مسألة التكليف، ومسألة ما لا يُطاق. إذ، يقول: «إن التكليف المجرد موجود من الله تعالى، كقوله: (... أَنبِئُونِي بِأَسْمَاءِ هَٰؤُلَاءِ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ)، «سورة البقرة: الآية 31».. وأما ما لا يُطاق فوجوده غير وارد، لأن المُكلف إما أن يكون عاجزاً لا يستطيع تحمله، وإما أن يكون كافراً، فيعجز عن الإيمان لاشتغاله بالكفر... وأن الله تعالى أثنى على من سأله ألا يُكلفه ما لا يُطيق بقوله: (... رَبَّنَا وَلَا تُحَمِّلْنَا مَا لَا طَاقَةَ لَنَا بِهِ...)، «سورة البقرة: الآية 286»...».
ورغم ذلك، أو بالرغم مما يبدو في هذين الجانبين، وغيرهما، من تأكيد الباقلاني على مذهبه الأشعري، إلا أن مقدماته في ما كتبه عن المعرفة، التي تُعد أول مقدمات وافية تصلنا بهذا الشأن، تأثر فيها بخطى المعتزلة وآرائهم، «تلك الآراء التي لم تصلنا كاملة».

كتاب «الإنصاف»
والواقع، أن الباقلاني، عبر أهم كتبه: «الإنصاف فيما يجب اعتقاده ولا يجوز الجهل به»، كان قد قدم أفضل جواب عرفناه عن التساؤل: «ما العلم؟!». إذ عرّف العلم بأنه: «معرفة المعلوم على ما هو به».
وهو يُقسم العلم، إلى نوعين: أولهما، «علم قديم»، وهو علم الله عز وجل، وليس ضرورة أو استدلالاً.. وثانيهما، «علم مُحدث»، وهو كل ما يعلم به المخلوقون من الملائكة والجن والإنسان وغيرهم من الحيوان. وينقسم علم المخلوقين إلى قسمين: «فقسم منهما علم ضرورة، والثاني منهما علم نظر واستدلال».
أما العلم الضروري، فهو: «علم يلزم نفس المخلوق لزوماً لا يمكنه معه الخروج عنه ولا الانفكاك منه، ولا يتهيأ له الشك في متعلقه ولا الارتياب به»، وهذه العلوم الضرورية: «تقع للخلق من ستة طرق: منها إدراك الحواس الخمس، وكل مُدْرَك بحاسة من هذه الحواس فالعلم به يقع ضرورة. والطريق السادس هو العلم المبتدأ في النفس، لا عن إدراك ببعض الحواس، وذلك نحو علم الإنسان بوجود نفسه وما يحدث فيها وينطوي عليها من اللذة والألم. والعلم بأن الضدين لا يجتمعان، وأن الأجسام لا تخلو من الاجتماع والافتراق وكل معلوم بأوائل العقول».
ومن الواضح، أن هذا العلم الضروري، هو علم «المحسوسات» أو الإدراك الناتج عن استخدام الحواس الخمس. ومن الواضح، أيضاً، أن المعرفة الحسية عند الباقلاني، معرفة ضرورية لا يمكن الشك فيها أو الارتياب بمتعلقاتها. ويضاف إلى هذه الحواس الخمس، ما يطلق عليه الباقلاني «أوائل العقول»، وهي تلك التي: «تخترع في النفس ابتداءً من غير أن تكون موجودة ببعض هذه الحواس».
ويبدو أن الباقلاني بذلك يساوي بين المعرفة الحسية والمعرفة البدهية (أوائل العقول)، ولا يعلق الثانية بالأولى، بل، إنه يؤكد هذا الانفصال الكامل بينهما، بقوله: «فكل هذه العلوم الواقعة لنا بالمعلومات التي وصفناها توجد مخترعة في النفس، وجدت هذه الحواس وما يوجد بها من إدراكات، أو لم توجد». 

معرفة المعلوم
ويرى الباقلاني أن: «هذه العلوم الضرورية بجانبيها الحسي والبدهي من خلق الله، ولا قدرة للإنسان عليها أصلاً، فهي مما يجده الإنسان في نفسه دون إرادة لها أو قصد إليه».
وأياً يكن من أمر الاتفاق أو الاختلاف مع تقسيمات الباقلاني للعلم، وطرقه في كيفية التوصل إلى المعرفة، إلا أن التعريف الذي قدمه للعلم، سيظل أفضل جواب عرفناه عن التساؤل: «ما العلم؟!».
إذ العلم، هو: «معرفة المعلوم على ما هو به».

جميع الحقوق محفوظة لمركز الاتحاد للأخبار 2025©
نحن نستخدم "ملفات تعريف الارتباط" لنمنحك افضل تجربة مستخدم ممكنة. "انقر هنا" لمعرفة المزيد حول كيفية استخدامها
قبول رفض