الفاهم محمد
مما لا شك فيه أن الفلسفة مرآة عصرها، إذ لا يستطيع الفيلسوف أن يفكر خارج القضايا الأساسية التي يطرحها واقعه. إن هذا هو ما ينطبق بالضبط على نيك بوستروم، الفيلسوف السويدي المعاصر، المولود سنة 1973، حيث تعبّر كل القضايا التي تشغله عن الهموم والإشكالات التي تؤرق بال الإنسان في منعطف الألفية الثالثة: تحديات الذكاء الاصطناعي الفائق، وضعف الحضارة المعاصرة، والأخطار الوجودية، وتحسين القدرات البشرية بوساطة التكنولوجيا... وباختصار، فإن ما يهم بوستروم هو مجمل القضايا التي تسائل مصير الإنسان في عصر التكنولوجيا الفائقة. وربما لهذا السبب يعود الفضل له في تأسيس معهد مستقبل الإنسان، التابع لجامعة أوكسفورد التي ينتمي إليها. كما يشرف أيضاً على برنامج أكسفورد مارتن، حول آثار تكنولوجيا المستقبل على الحضارة الإنسانية.
وقد كتب نيك بوستروم المئات من المقالات، كما أصدر بعض المصنفات، منها: التحيز الإنتروبي 2002، وتحسين الإنسان 2009، ثم الذكاء الاصطناعي الفائق 2014، وهذا الأخير اعتبر واحداً من أكثر الكتب مبيعاً في العالم حسب صحيفة «نيويورك تايمز». كما اعتبرت مجلة «فورين بوليسي» الكاتب، سنة 2015، كواحد من بين أفضل 100 مفكر عالمي.
الأخطار الوجودية
ويتحدث نيك بوستروم عن الأخطار الوجودية، وهي مجموع الأخطار التي تكون ناتجة عن النشاط البشري وما حققه من تطور علمي وتكنولوجي. وفي كتابه المشترك مع عالم الفضاء والفيلسوف الصربي ميلان سيركوفيتش المعنون: «المخاطر الكارثية العالمية».. يحاول الكاتب رصد حزمة من الأخطار التي قد تهدد بقاء الحضارة الإنسانية. لقد عرف الإنسان على امتداد تاريخه العديد من الأخطار الطبيعية ذات الآثار المدمرة، مثل البراكين أو الأمراض الوبائية أو اصطدام الأرض بكويكبات فضائية، أو ما نعيشه حالياً من احتباس حراري... غير أن ما يقصده الكاتبان بالأخطار الوجودية شيء مختلف تماماً. إنه يتعلق بمجموع الأنشطة ذات الطابع البشري، كتلك المرتبطة بتطبيقات التكنولوجيا الحيوية، أو مخاطر الذكاء الاصطناعي، أو كذلك تكنولوجيا النانو وتطبيقاتها المذهلة.
وبطريقة أخرى، يعتبر نيك بوستروم أن الأخطار الوجودية هي تلك التي تحمل إمكانية الدمار الشامل للبشرية، أو على الأقل يمكن أن تعوق بشكل جذري إمكانية التنمية والتطور الحضاري. إن مثل هذه المخاطر ستزداد احتمالية حدوثها في المستقبل، بالنظر إلى التعقيد الحضاري والمعرفي الذي وصلنا إليه. ويؤكد الكاتبان أنه إذا كان الجنس البشري قد نجا إلى حد الآن من المخاطر الطبيعية كالاصطدام بالكويكبات الفضائية، والأمراض، والزلازل والبراكين... إلخ، فإنه من المحتمل جداً أن تكون بعض المخاطر الوجودية الأخرى أكثر صعوبة.
الذكاء الاصطناعي الخارق
ولعل أحد المخاطر التي تؤرق بال الإنسان المعاصر التهديدات المرتبطة بتطور الذكاء الاصطناعي. وهذا هو ما يستكشفه بوستروم في كتابه: «الذكاء الخارق»، حيث يؤكد أن الذكاء الاصطناعي الذي يمتلك القدرة على التعلم الذاتي، بإمكانه أن يشكل خطراً حقيقياً على الذكاء البشري. ونحن نتحدث هنا عن ذكاء بإمكانه أن يتفوق بدرجات كبيرة على الذكاء الطبيعي للإنسان، في كل القدرات التي يقوم بها، مثل التذكر والتحليل والحساب وحل المشكلات وغيرها. وقد يكون هذا التفوق واعداً وإيجابياً في العديد من المجالات، بحيث يمكن للذكاء الاصطناعي الخارق، أن يتغلب على الضعف البشري، كالنسيان وقلة الانتباه أو عدم الكفاءة الجيدة. ولكن ماذا لو قرر هذا الذكاء العمل على إزاحة الإنسان، بل وتجاوزه نهائياً. إن مثل هذه الإمكانية الخطيرة هو ما ينصب عليه كتاب بوستروم متسائلاً عما إذا كان بإمكاننا السيطرة على هذا الذكاء المقلق، ذلك أننا في نظره سنكون: «في مواجهة الآثار الناجمة عن انفجار الذكاء، نحن البشر وكأننا مثل أطفال صغار يلعبون بقنبلة»!
ضعف الحضارة المعاصرة
من بين الأطروحات الأساسية أيضاً في النسق الفكري لنيك بوستروم ما يطلق عليه «فرضية العالم الضعيف». لنفترض مثلاً وجود جرة كبيرة مليئة بالكرات بعضها أبيض، وهي تمثل كل الاختراعات والمعارف المفيدة للبشرية، والبعض الآخر رمادي، وهي مجموع الاكتشافات التي على رغم فوائدها كانت لها بعض الآثار السلبية. هنا يفترض نيك بوستروم أن ثمة كرة سوداء قاتلة لم نستخرجها بعد. إنها اختراع تكنولوجي يمكن أن يؤدي إلى الانهيار النهائي للحضارة البشرية. وفي نظر الكاتب أننا لم نصل بعد إلى مثل هذه الكرة، وهذا ليس بسبب حكمتنا، من وجهة نظره، ولكن فقط بسبب الحظ والمصادفة، مما يعني أننا في نهاية المطاف قد نواجه هذه الكرة المشؤومة في قاع الجرة.
إن فرضية العالم الضعيف تعني إذن أننا نعيش على مقربة من الخطر، الذي يداهمنا دائماً بإمكانية توصل طرف ما إلى مثل هذا الاختراع القاتل! مما يعني في نظر الكاتب دائماً أنه يجب تعزيز الرقابة على مثل هذه الأبحاث، وترسيخ نوع من الوقاية العالمية. وبطبيعة الحال قد تكون الكرة السوداء هي الأسلحة النووية، كما قد تكون الاحتباس الحراري غير المتحكم فيه. وفي الحالة الأولى، قد يقوم بذلك أي متطرف، أو أي عالم ناقم على الحضارة! كما قد يعود الأمر أيضاً إلى خطأ بشري في الضغط على زر أو في تجربة منفلتة. أما في الحالة الثانية، فنحن جميعاً سنساهم بشكل أو بآخر في استخراج هذه الكرة. مثلاً كل سائقي السيارات الذين يرفعون من درجة سخونة الأرض يشاركون، بطريقة ما، في الاحتباس الحراري.
تحسين القدرات البشرية
من ضعف الحضارة إلى ضعف الإنسان. هذا الضعف الذي فكر فيه الفلاسفة ملياً تحت عناوين مختلفة مثل هشاشة الوضع البشري وعرَضيته، إضافة إلى فكرة التناهي والموت. ولكن بفضل التطورات التكنولوجية التي نحققها اليوم هل يمكننا تجاوز هذا الضعف والتغلب عليه. هذا على أي حال هو ما يطرحه نيك بوستروم في كتابه المشترك مع الفيلسوف الروماني جوليان سافوليسكو، الصادر سنة 2009، بعنوان «تعزيز الإنسان» Human Enhancement، صحيح أن تحسين الإنسان وترقيته، كانت تتم دائماً بوساطة التربية والتكوين المعرفي والأخلاقي، إلا أن هذا الأمر أصبح في السنوات الأخيرة تخصصاً قائماً بذاته تشرف عليه العلوم الطبية الحيوية.
إن المقصود بهذا هو أن التطبيقات البيوتكنولوجية أصبحت تسخر من أجل ترقية القدرات الجسدية للإنسان. فالطب لم يعد يتدخل هنا فقط من أجل إصلاح الاختلالات الطبيعية كما في حالة المرض مثلاً، بل يعمل على منح الإنسان قدرات تفوق أحياناً ما هو طبيعي. فالمقصود إذن بـ«تعزيز الإنسان» إحداث تغيير جدري في الطبيعة الإنسانية، وهي تغييرات قد يكون من شأنها أن تؤدي إلى ولادة نوع بشري جديد، إن جاز التعبير. وهنا تدور رحى النقاش بين الاتجاه المحافظ الذي يدافع عن حرمة الجسد البشري وعدم المساس به، في مقابل اتجاه ما بعد الإنسانية الذي يطالب بالاستفادة مما تمنحه لنا هذه التطبيقات الحيوية.
حدود العلم
لاشك أن بعض القنيات غير المتحكم فيها، من شأنها أن تطرح إشكالات عويصة تتعلق بالجوانب الأخلاقية والنفسية والمجتمعية، بل ربما قد تمس حتى الجوانب الروحية والعقدية للإنسان. هذا عدا عن كون مثل هذه التدخلات الطبية في الجسد البشري كنظام بيولوجي معقد، قد تؤدي إلى نتائج عكسية. فهل يجب أن نضع حدوداً يتوقف عندها العلم، أم أننا يجب أن نمضي هكذا إلى الأمام دون تحسّب، غير عابئين بمثل هذه التخوفات ودواعي القلق القوية؟ يجيبنا بوستروم: «عندما نسير في الاتجاه الخاطئ، فإن آخر شيء نحتاج إليه هو التقدم»!