الفاهم محمد
كين ويلبر - Ken Wilber -1949 أحد أكبر الفلاسفة في أميركا حالياً. يلقبه بعضهم بـ«أينشتاين المعرفة»، وتنصب فلسفته على إيجاد تقاطعات بين خطابات معرفية عديدة، كانت إلى عهد قريب تبدو كما لو أنها متباعدة عن بعضها بعضاً، مثل الفلسفة الغربية، والروحانيات الشرقية، والفلسفة البيئية والسيكولوجيا والإيبستمولوجيا، إضافة إلى الفيزياء وغيرها من المعارف. وله العديد من الكتب تجاوزت 22 كتاباً من أشهرها العيون الثلاثة للمعرفة 1987، الباراديغم الهولوغرافي 1992، وتاريخ مختصر لكل شيء 1997، ثم كتاب النظرة الشمولية 2008. وتطمح هذه «الفلسفة التكاملية» كما يسميها إلى تقديم خريطة معرفية تمكننا من فهم أفضل للوضع البشري، وهو في ذلك يستند إلى مشاريع سابقة يقوم باستثمارها من أجل تدعيم فلسفته مثل علم النفس التطوري عند بياجيه، والفلسفة الروحانية عند شري أوروبيندو، أو عند تيلارد دوشاردان وعلم النفس عند يونغ، وغيرها من الفلسفات.
والسؤال الأساسي الذي تطرحه الفلسفة التكاملية عند كين ويلبر يتعلق بإيجاد الباراديغم العام، أي الإطار الأساسي framework الذي سنقوم فيه بتجميع كافة الحقائق المتوصل إليها إلى حد الآن، في مختلف التخصصات والثقافات كي تشكل كلاً واحداً منسجماً. أو بطريقة أخرى كيف سنتمكن من تنظيم هذه القطع المتناثرة، كي نصنع منها لوحة واحدة معبرة عن الإنسان ووعيه ومكانته في الكون؟
نحن إذن أمام مشروع ضخم، يربط بخيط ناظم بين مختلف التخصصات المعرفية كي يشكل منها خطاباً معرفياً منسجماً. كل ذلك عبر شبكة من المفاهيم الأساسية، التي أصبحت الآن معروفة بارتباطها بالفلسفة الشمولية عند كين ويلبر. فما هي المعالم الأساسية لهذا المشروع وأهميته النظرية والتطبيقية العملية؟
الشمولية والتكاملية
المقصود بالفلسفة التكاملية، تلك النظرية العامة أو بالأحرى نظرية تهدف إلى توحيد كافة المعارف الإنسانية في مختلف المجالات، سواء كانت علمية أو فلسفية أو روحية، ولذلك يطلق أحياناً على هذه الفلسفة التكاملية «نظرية كل شيء»، كما يحمل عنوان كتاب ويلبر الصادر سنة 2001. إن البحث عن توحيد كافة الخطابات وإدراك الكل ليس مشروعاً جديداً، فقد طمحت الفلسفة دوماً إلى التفكير النسقي الذي يربط مختلف العناصر المعرفية ضمن نظام واحد. لقد بلغت فكرة النسق أوجها كما هو معروف مع هيجل، الذي كان يقول بأن «الحقيقي هو الكلي». فهل هذا هو نفسه الطموح الذي يسعى إليه كين ويلبر؟
نعلم جميعاً أنه تحت الانتقادات اللاذعة التي وجهها في البداية كيركيجارد للمطلق الهيجلي، ثم بعد ذلك الضربات التي حطم بواسطتها نيتشه الفكر النسقي المغلق، ما عاد بإمكان أحد أن يدعي مثل هذا المشروع الكلي للمعارف. ومع ذلك فالفلسفة التكاملية عند كين ويلبر وإن كانت تتقاطع مع الفكر الموسوعي، إلا أنها تختلف عنه في الآن ذاته. والأمر لا يتعلق هنا بالبناء النسقي الذي يبتغي العثور على الانسجام بين العناصر ضمن وحدة مغلقة، على حساب المعطى الواقعي المختلف والمتعدد، بل بالعثور على الترابطات والتقاطعات الممكنة بين الخطابات المعرفية، والتي بإمكانها في حالة العثور عليها أن تمكننا من الحصول على صورة شاملة لما نبحث عنه. كما بإمكان هذه العملية أيضاً أن تساعدنا على إضاءة أفضل للحقيقة، ما دام أن ما يعجز عنه خطاب ما، قد يكون على العكس من ذلك وافر العطاء في خطاب آخر. هذا من ناحية، ومن ناحية أخرى يتميز الفكر النسقي بطابعه السكوني، بينما الفلسفة التكاملية هي على العكس من ذلك تماماً. يرى كين ويلبر مستشهداً في هذا بالفيلسوف الأميركي جان سموت، أن الطبيعة في مجملها عبارة عن كل دينامي، وهذا هو ما يسميه سموت بالشمولية The holisme وبالتحديد تلك الظاهرة التي تعرفها الطبيعة بميلها بشكل تدريجي لشمولية أكثر اتساعاً وتعقيداً باستمرار. وعلى سبيل المثال الخلايا تتضمن الذرات، لكنها تتجاوزها في الآن ذاته. والكائنات الحية تتضمن الخلايا وتتجاوزها كذلك. ويعرج الكاتب على أهمية الفلسفة البيئية، ذلك أن الإضرار بمكون أو حلقة holon من هذه التراتبية سيكون أمراً مدمراً لنا كبشر ليس فقط لأننا سنضر بالبيئة التي نعيش فيها، بل لأن هذه الحلقة هي جزء أساسي من الحياة ككل. والتراتبية التي يتحدث عنها ويلبر تختلف عن التراتبية المعهودة. هنا على العكس نجد تراتبية متسلسلة بحيث إن كل مكون يتضمن سابقه ويتجاوزه في الآن ذاته.
العيون الثلاثة للحقيقة
وفي كتابه سابق الذكر «العيون الثلاثة للمعرفة»، يميز كين ويلبر بين ثلاثة مستويات حضرت لحد الآن في تاريخ الفكر البشري وهي كما يلي:
1 - عين الجسد: ويقصد بها العين الحسية التي تطمح إلى إدراك الطبيعة بوساطة التجربة والاحتكاك المباشر مع الأشياء.
2 - عين العقل: وهي العين الفلسفية التي لا تحتكم إلى الحواس، بل إلى العقل والمنطق، وقد تطورت ضمن المشروع الميتافيزيقي الغربي منذ الفلسفة اليونانية وإلى غاية الفلسفة الحديثة.
3 - عين التأمل: هي العين الحدسية الروحية التي تطلب التعالي لا سواء على الحس، ولا سواء على العقل والمنطق. إنها العين التي نجد حضوراً قوياً لها في الدين وفي الروحانيات الشرقية عموماً.
ويشير الكاتب إلى أن كل عين من هذه العيون تمتلك إيبستيمي خاص بها. أي منطق معرفي داخلي يميزها عن غيرها. هناك المنطق المنهجي التجريبي والمنطق العقلي التجريدي، ثم أخيراً المنطق الحدسي الروحي. وبرجوعنا إلى تاريخ الفكر نلاحظ أنه وقع دائماً صراع بين هذه المكونات الثلاثة.
مفهوم الأطر الأربعة
ينتقد كين ويلبر الحداثة الغربية، فهي تحتاج اليوم إلى إعادة النظر في المفهوم الكلاسيكي للعقلانية الذي اعتمدته إبان ظهورها خلال عصر النهضة والأنوار. وهو مفهوم اختزالي وضيق للحقيقة. ولذلك يقترح ما يطلق عليه الأطر الأربعة quatre quadrant، لقد تبين له أن مختلف المعارف والخطابات يمكن ردها إلى أربع متواليات، هناك من ناحية الفرد بأفكاره ووعيه الداخلي ونمط تفكيره. وهناك أيضاً هذه الذات منظوراً إليها من الخارج من طرف الطب مثلاً، غير أن هذه الأفكار في نهاية المطاف تتأثر ثالثاً بالسياق الثقافي الذي تنتمي إليه، والعصر الذي تعيش فيه. ورابعاً تتأثر بطبيعة المؤسسات التي تنتمي إليها والبنيات التحتية التي تتحكم في مفاصل المجتمع. وكمثال يمكن أن نبسط من خلاله هذه الأطر الأربعة نذكر ما يلي: لنفترض أن شخصاً ما أصيب بالسرطان يمكنه أن يستبطن ذاته ويعيش علاقته بمرضه ومخاوفه النفسية أمام انتظار الموت، هنا تكون العلاقة بين الإنسان وذاته. غير أن المرض يمكن أن ينظر إليه من الناحية الخارجية من طرف الطب كورم وجب استئصاله ومعالجته. ثم إن المرض ليس مسألة فردية، بل يمكننا أن ندرسه من الناحية الجماعية لنعرف ما هي العوامل الاجتماعية أو الثقافية التي أدت إلى ارتفاع نسبته في المجتمع، والتي قد تكون على سبيل المثال عادات استهلاكية أو مبيدات كيميائية أو غيرها. وأخيراً يمكن أن نتناول المرض من الناحية الخارجية لندرسه على مستوى البنيات التحتية والمؤسسات الطبية لنعرف عما إذا كان هذا المجتمع يتوفر على معاهد لدراسة السرطان، ومختبرات للقيام بالتحليلات اللازمة ومستشفيات للعلاج.
هكذا، نستنتج أن الحقيقة لا يمكن أن تكون إلا نتاج التقاطع بين هذه الأبعاد الأربعة، وبالتالي ما تؤكد عليه الفلسفة التكاملية هو أنه لا يمكن إيجاد حل للمشكل انطلاقاً من جانب واحد، بل ينبغي بالضرورة جمع المقاربات الأربع مع بعضها بعضاً. أولاً: المقاربة الذاتية التي تعمل على تعزيز الصحة النفسية ورفع درجة وعي الفرد بطبيعة مرضه. ثانياً: المقاربة الطبية التي تتعامل مع المرض بموضوعية. ثالثاً: المقاربة الاجتماعية التي تبحث في السلوكات الثقافية والاقتصادية للمجتمع ككل. ثم رابعاً وأخيراً ما أعده المجتمع من بنيات تحتية لمقاومة المرض واحتوائه.
تلقى الفلسفة التكاملية اليوم شهرة واسعة في أميركا وفي العالم الأنجلوساكسوني، فقد تمت ترجمة كتب كين ويلبر إلى أزيد من 20 لغة، رغم أن هذه الفلسفة ما زالت غير معروفة إلا في حدود ضيقة في فرنسا. أما في العالم العربي فهي تقريباً مجهولة تماماً، والحال أن أهمية المقاربة التكاملية تتزايد يوماً عن يوم بسبب التعقيد والتشابك الذي تعرفه مشاكل عصرنا. وفي هذا السياق تجدر الإشارة إلى أن هيئة الأمم المتحدة حاولت الاسترشاد بالمبادئ العامة لهذه الفلسفة من خلال برنامجها لمكافحة الإيدز. هذه الظاهرة التي يمكن فهمها بطريقة أفضل باستحضار فكرة الأطر الأربعة. كما يتناول كين ويلبر التطبيقات العملية لمفهومه هذا في كتابه سابق الذكر «نظرية كل شيء» في ميادين مختلفة مثل التجارة والطب والتربية والسياسة وغيرها. حري بنا إذن الاهتمام بهذه الفلسفة في عصر العولمة الذي أضحت فيه المشاكل تزداد تعقيداً يوماً عن يوم. إن المشاكل المركبة تتطلب مقاربات تكاملية.