سعد عبد الراضي (أبوظبي)
نظمت جامعة محمد بن زايد للعلوم الإنسانية محاضرة بمقرها في أبوظبي بعنوان «الدراسات القرآنية المعاصرة في الغرب»، حاضر فيها المفكر الأستاذ الدكتور رضوان السيد عضو هيئة التدريس بالجامعة، وقدمه الباحث سعيد الكتبي، وجاءت المحاضرة ضمن المبادرة الثقافية العلمية «صالون بيت الحكمة العلمي» التي أطلقتها جامعة محمد بن زايد للعلوم الإنسانية، وهي عبارة عن منصة علمية تتلاقى فيها المعارف، وفسحة واسعة للحوار والنقاش في القضايا المهمة والتعريف بأبرز كتب العلوم الإنسانية المؤثرة بين الأساتذة والباحثين والطلبة، في مجالات الأدب والفلسفة والأخلاق والدين، وغيرها من المجالات الأخرى المهمة، ويتم ذلك كله تحت سقف مكتبة بيت الحكمة التي تُعد المنارة الفكرية للجامعة، ويقدمها نخبة من الباحثين المختصين في مختلف قضايا العلوم الإنسانية.
وقال الدكتور رضوان السيد في مستهل محاضرته: بالطبع لن نعود إلى القرن الثاني عشر عندما تُرجم القرآن إلى اللاتينية للمرة الأولى؛ بل سنمر مروراً عابراً على ما اعتُبر الدراسات العلمية الأولى للقرآن الكريم في القرن التاسع عشر: أطروحة الحاخام أبراهام غايغر عام 1834 بعنوان: «ماذا أخذ القرآن عن اليهودية؟»، ثم أُطروحة تيودور نولدكه عام 1859 بعنوان «تاريخ القرآن».
منهج تاريخاني
وقال المحاضر: وأما المنهج، فهو المنهج التاريخاني Historicism وله ركنان: الفيلولوجيا والتاريخ. تبادر أيّ نصٍ بإزالة تركيب النصّ وتحويله إلى مفردات تبحث في أصولها اللسانية وإلى أي لغةٍ تنتمي وكيف استُعيرت وخصائصها النحوية والصرفية، وإلى أي مرحلةٍ تاريخية تنتمي. دونما اهتمامٍ بأنه نصّ ديني أو شعائري، وأنه مثلاً للإلقاء والتلقّي.
وأضاف: هكذا فعلوا في القرنين الثامن عشر والتاسع عشر مع العهدين القديم والجديد، وهكذا بدأوا يفعلون مع القرآن. وإلى جانب هذه النزعة الشكلية والتجزيئية، هناك بقايا الموقف السلبي من القرآن والإسلام، وهناك الزعم بأنّ القرآن المشرذَم مأخوذ عن العهد القديم أو عن العهد الجديد أو عنهما معاً! وإذا لم يجدوا أصلاً لهذا المفرد أو ذاك في الكتابين، ذهبوا إلى عودته للمواريث الشعبية اليهودية أو المسيحية. ويمكن القول، إنّ الأمر بقي على ذلك حوالي المائة عام، صدرت خلالها مئات الكتب عن القرآن والنبي، صلى الله عليه وسلم، أو النبي والقرآن، مع زيادة التفصيل والتنويع مثل القصص التوراتي في القرآن أو النبي محمد وشخصية موسى عليه السلام، أو من أين أتت مشاهد الجنة في القرآن؟ أو صنع القواميس للألفاظ المستعارة في القرآن عن اللغات السامية وغير السامية أو عقائد مسيحيي الجزيرة والشام وفلسطين في القرآن.
نص قائم
وتابع السيد قائلاً: عندما أقام الأستاذ شتفان فيلد مؤتمراً للقرآن عنوانه: «القرآن باعتباره نصاً» وصدرت أعماله عام 1996 قلت له ضاحكاً: لقد تجاوزتَ رُكام مائة عامٍ وأكثر عندما اعتبرتَ القرآن نصاً، فصار التاريخ تاريخاً لنصٍ قائمٍ يمكن بالفعل الحديث عن تاريخه. إنّ اعتبار القرآن نصاً دينياً قائماً له بنية، وهو ذو طابع شعائري وله عالم متميز يمكن مقارنته بعوالم الكتب المقدسة الأُخرى، والذي بدأ في الأربعينيات والخمسينيات من القرن العشرين، أدّى إلى تقدمٍ في الفهم والقراءة، وكانت له أسباب منها التقدم في دراسة التراث العربي وبالتالي الحضارة العربية الإسلامية، والاتجاه إلى التاريخ الثقافي للحضارات. فقد نشر المستشرقون آلاف النصوص العربية القديمة في شتى فنون الحضارة، فما عاد ممكناً غير اعتبار القرآن مؤسِّساً لتلك الحضارة أو أحد عوامل تأسيسها. وإلى ذلك ظهور عالم عربيٍّ ناهضٍ في حقبة ما بين الحربين، والحرب العالمية الثانية. صحيح أنّ إدوارد سعيد يعتبر المستشرقين متخلفين علمياً بالمقاييس الغربية؛ بيد أنّ كبارهم ما كانوا كذلك في الحقبة الحديثة بعد الحرب، وقد راح بعضهم يدرسون تأثيرات الإسلام في النهوض الثقافي والسياسي، مثلما كان الأوروبيون يؤصّلون هويتهم على اليونان والرومان.
عالم رؤيوي جديد
وأكد الدكتور رضوان السيد أن المرحلة التي أراد الحديث عنها هي المرحلة المعاصرة التي تبدأ في سبعينيات القرن الماضي، مشيراً إلى أنها لم تعد مرحلةً ألمانيةً في قراءة القرآن، بقي للمستشرقين الألمان تأثير كما سنرى، لكنْ دخل عليها كثيراً الأميركيون والإنجليز والفرنسيون. وهي لشدة سلبيتها تذكّرُ بالبدايات؛ لكنها في الحقيقة ليست كذلك. ربما كانت الموتيفات ذات تأثير. أما العالم الرؤيوي، فهو جديدٌ وينتمي إلى مرحلة المنهج البنيوي أو البحث عن البنية في النصوص. وقد أفْضت البحوث الكثيرة لدى المستشرقين الجدد أو المراجعين الجدد إلى أنه ليست للقرآن ولا للإسلام المبكر بُنى نصية أو لاهوتية أو فقهية يمكن الاستناد إليها إلاّ بعد القرن الثاني الهجري/ الثامن وأوائل التاسع للميلاد!
وأضاف المحاضر: بيد أنّ التاريخ المبكر للإسلام والقرآن ما بقي مجهولاً في نظر المراجعين الجدد هؤلاء، بل سادت في تأمله ثلاث تفكيكيات. الأولى التفكيكية التي قادها الدارس البريطاني جوان وانسبرو. والتفكيكية الثانية قام بها الألماني Luling والآخر الذي سمّى نفسه Luxenberg وهو كاهن سرياني من أصل لبناني. أما التفكيكية الثالثة فتذهب إلى أنّ الدولة هي التي جمعت حصراً الشذرات المتفرقة في مطالع القرن الثالث الهجري!
ومن العجيب التخرصات الفظيعة التي تبناها جيلان من الدارسين الشباب والكهول فيما بين السبعينيات من القرن الماضي والعقد الأول من القرن الحادي والعشرين. والعجيب أيضاً أنّ أحداً من هؤلاء ما فكّر كيف يمكن قوننة النص القرآني في حقبةٍ صار فيها انقسام كبير بداخل الجماعة بعد مقتل عثمان وعلي رضي الله عنهما. أي كيف يجتمع الأمويون والعباسيون على نصٍ واحدٍ للقرآن رغم اختلافهم في كل شيء. وإلى هذا وذاك: كيف كان المسلمون الأوائل يقرؤون النصّ الشعائري في صلواتهم وعباداتهم رغم أنه ما كان موجوداً بعد بالصيغة العثمانية التي يقول بها المسلمون جميعاً رغم خلافاتهم السياسية.
«ثورة» في القراءة
وتساءل المفكر: لماذا كانت هذه «الثورة» في قراءة النص طوال ثلاثة عقود ونيّف، وأين هي الدراسات القرآنية في الغرب الآن؟. مضيفاً: هناك من جهة الثورات في العلوم الاجتماعية والأنثروبولوجية وقراءة النصوص من البنيوية إلى التفكيكية والشعرية والإسكاتولوجية والإنسانوية والتاريخية. وهناك متغيرات الرؤى للعرب والإسلام التي اتجهت للسلبية بتغير الأوضاع العربية والإسلامية وصولاً لحدث 11 سبتمبر. وهناك بقاء «المرجعية» في سائر دراسات الإسلام بيد الغربيين، بينما لم يبق ذلك في الدراسات الصينية واليابانية والهندية!
وتابع قائلاً: أما أين الدراسات القرآنية في الغرب الآن؟ فإنها اتجهت في تيار رئيسي نحو اعتبار القرآن بمجمله من آثار المرحلة الكلاسيكية الأخيرة للنصوص الدينية بين القرنين الرابع والسابع للميلاد، والتي يقال الآن إنّ كل الكتب المقدسة اليهودية والمسيحية والمانوية وكتب مختلف الديانات ظهرت جميعاً في تلك الحقبة والقرآن واحدٌ منها. وهذا يعني أنّ القرآن مثل كتب العهدين من مواريث تلك المرحلة! وإلى هذا هناك عشراتٌ من الدارسين من أصول عربية وإسلامية صاروا أساتذةً في كراسي ومواقع الدراسات القرآنية والإسلامية في الغربين الأميركي والأوروبي.
واختتم محاضرته قائلاً: هناك تحولاتٌ جديدةٌ في شتى حقول الدراسات القرآنية والإسلامية خلال عقدي القرن الحادي والعشرين. ويكون علينا في سائر جامعاتنا وبخاصةٍ جامعة محمد بن زايد أن نخوض في هذه التحولات والتحديات بالدراسة العلمية والفكرية من أجل القرآن والإسلام والدولة الوطنية العربية والإسلامية.