إيهاب الملاح
-1-
إحدى عشرة سنة مرت على رحيل المفكر التنويري، ورائد العقلانية النقدية في الفكر العربي المعاصر، الدكتور فؤاد زكريا (1927-2010) أستاذ الفلسفة المرموق، وصاحب المؤلفات التأسيسية في الثقافة العربية، «التفكير العلمي»، و«نظرية المعرفة»، و«خطاب إلى العقل العربي»، وغيرها من المؤلفات والترجمات والكتب الحاضرة بقوة في مشهدنا الفكري المعاصر.
كان -رحمه الله- مفكراً من طراز فريد قلّ أن يوجد نظيره، وأستاذاً جليلاً للفلسفة ترك بصمات راسخة في مسيرة الفكر العربي، خلال نصف القرن الأخير، وكان علماً على مدرسة فكرية فلسفية تعتمد النظر النقدي التحليلي، وفعل المساءلة في كل ما عرض له من مشكلات، أو عالج من بحوث.
وتشهد أعمال فؤاد زكريا ومؤلفاته وترجماته التي تركها بأنه كان غزير المعرفة عميق التأمل ثاقب النظر، يتمتع بعقلية نقدية جبارة أهَّلته ليحتل بجدارة مكانته كأحد أهم المفكرين والمثقفين في العالم العربي.
وكانت سلاسة الكتابة باللغة العربية عند فؤاد زكريا، وقدرته على تقديم أعقد المفاهيم والمصطلحات بأسهل العبارات، صفة ورثها عن أستاذه زكي نجيب محمود على وجه الخصوص، (وهو ما أكده أكثر من باحث ودارس لفكر فؤاد زكريا)، كما لو كان يجسد عملياً وتطبيقياً قول الناقد الكبير محمد مندور «إن الفهم تملك للمفهوم». وقد كان فؤاد زكريا حقاً متملكاً واعياً بالمفاهيم الفلسفية من أفلاطون إلى ماركيوز، مروراً باسبينوزا، على نحو يجعلها طيعةً لأسلوبه الذي كان ينفر من الحلي اللفظية، والإسهاب، والإطناب، مؤثراً عليها اللغة الواضحة الحاسمة.
- 2 -
تخرجت في كلية الآداب قسم اللغة العربية وآدابها، وتلقيت محاضرات في الفلسفة على يد الأستاذ الراحل الدكتور عاطف العراقي، ولم أتلق دروساً بشكل مباشر من فؤاد زكريا الذي كنت بدأت التعرف على أعماله وأقرأ كتبه قبل دخولي الجامعة، وقررت أن أتخذه أستاذاً لي، أتعلم من كتبه ومواقفه الفكرية الشجاعة، التي عبرت عن نفسها في كثير من المواقع والمواقف على حد سواء.
لا أحد ينسى مقاله الجريء في أعقاب نصر حرب أكتوبر 73، الذي يرد فيه على بعض من ادعى دعاوى غير عقلانية! وكان مقاله صيحة علم وفكر في وجه الفكر الاتكالي والتفسيرات اللامعقولة لأحداث كبرى. وكانت هذه الجرأة الفكرية هي التي جعلته يتصدى للخزعبلات التي رد إليها البعض الانتصار العظيم الذي تحقق بالعلم والتخطيط والذكاء والإصرار.
ولم تكن هذه الصراحة الفكرية بعيدة عما كتبه أيضاً رداً على بعض آراء محمد حسنين هيكل في كتابه الشهير «خريف الغضب»، بكتابه المهم الذي لم يلتفت إليه أحد منذ صدوره أواخر سبعينيات القرن الماضي وحتى الآن «كم عمر الغضب؟» ويكشف فيه عن تحيُّزاته السياسية، وعلى رأسها للدولة المدنية الحديثة القائمة على الفصل بين السلطات، والملازمة للديمقراطية السياسية والحرية الفكرية والإبداعية.
وأظنني خلال هذه الفترة قد استطعت استخلاص أهم ما كان يميز فكر وشخصية ومواقف فؤاد زكريا، وعلى رأسها نزعته العقلانية الحاسمة، وهي نزعة تليق بالفلسفة النقدية التي ظل فؤاد زكريا مُنحازاً إليها في كل دراساته وممارساته الفكرية، وأظن أن كتاباته كانت سبباً مباشراً في تعمقي في فهم معاني الوعي النقدي، وتيقني من ضرورة وضع كل شيء موضع المساءلة، كي يأتي الاقتناع على أسسٍ راسخة، بعيدة عن الهوى أو الوقوع في شراك الإيديولوجيا، التي كان واحداً من أكبر مواجهيها وكاشفي زيفها، والالتجاء بقناعة إلى معيار النظر العقلي والتحليل النقدي المبرأ من الهوى والانحياز الأعمى.
وكانت عقلانية فؤاد زكريا قرينة تبنيه المنهج العلمي الذي رأى فيه طريقاً إلى المستقبل الواعد، وترك فيه كتاباً نادراً في الثقافة العربية التي يغلب عليها أحياناً العداء للعقل والعلم على السواء، وهو كتابه الفذ «التفكير العلمي» (الذي صدر ضمن الأعداد الأولى من سلسلة «عالم المعرفة» الكويتية التي كان مستشاراً لها، وظل يمارس مهامه كمستشار للسلسلة حتى سنواتٍ قليلة قبل رحيله).
ومن المؤكد أن عقلانية فؤاد زكريا هي التي جعلته رمزاً نزيهاً من رموز الفكر والاستنارة العربية، فقد وصل، دائماً، بين العقل والعلم في الكشف عن حقائق الأشياء، ومن ثم التصدي للنزعات الماضوية الجامدة وأصحاب النهج الاتباعي في الفكر الذي ناصبه العداء.
وأتصوّر أن نزعة المساءلة التي اكتسبها فؤاد زكريا من «الفلسفة النقدية» هي التي جعلته يضع كل فكرة وكل تيار وكل منهج موضع المساءلة، متأملاً ما لها وما عليها، مقدماً لنا، وأنا واحد ممن تأثروا به أكبر التأثر، درساً لا ينسى في عدم الانبهار بشيء من الموضات إلا بعد وضعه موضع المساءلة النقدية بمعناها الفلسفي.
- 3 -
واليوم، وفي الذكرى الحادية عشرة لهذا المفكر الكبير، أستعيد بعض ذكريات الحوار الأخير الذي أجريتُه معه في مثل هذه الأيام قبل أحد عشر عاماً (وقبل ثلاثة أسابيع بالضبط من رحيله)، ونُشر حينها على صفحة كاملة بإحدى الصحف العربية المرموقة.
وليس الغرض هنا سرد ذكريات مجردة، بمعزل عن سياق إعادة اكتشافنا لواحدٍ من تجليات فؤاد زكريا الفكرية النقدية، والتي يمكن اعتبارها وثيقة فكرية وتنويرية، تستحق التنويه والتأمل واستخلاص الأفكار وطرح الأسئلة التي لطالما دعا إليها المفكر الراحل.
بدأت القصة حينما تواصلتُ معه هاتفياً مساء ليلة شتوية باردة، أستأذنه في إجراء حوار مطول، وجاءني صوته بعيداً واهناً ضعيفاً، لكنه ما زال محتفظاً بشخصيته الصارمة، وردوده المقتضبة المركزة، ودار الحوار التالي:
- مساء الخير يا دكتور فؤاد.. أنا فلان.. أطمح لإجراء حوار مطول معكم عن أزماتنا الفكرية المعاصرة ونقاط أخرى..
- أوافق. بشروط!
- تفضل يا دكتور..
- أولاً: تأتيني بخطابٍ ممهور من رئيس تحرير الجريدة التي سينشر فيها الحوار، يطلب مني فيها ذلك. ثانياً: يتعهد في الخطاب بأن يرسل لي ثلاث نسخ ورقية من العدد الذي سينشر فيه الحوار. ثالثاً: الإقرار بحقي في مقاضاتكم حال نشر الحوار بصورة تخالف ما قلته!
وأخيراً ألا تزيد مدة المقابلة على ثلاثين دقيقة لا أكثر!
- (شُدِهت ودهشت وبهتُّ.. واستغرقت لحظاتٍ للتغلب على وقع ما سمعت).. وكان الرد سريعاً:
حاضر يا دكتور.. أمهلني بعض الوقت، وسأنفذ ما طلبت!
وكانت هذه المرة الأولى (والأخيرة) التي أتعرض فيها لمثل هذا الموقف في حياتي المهنية كلها، أو أن يطلب مني أحد ممن حاورتهم وهم كثر، ويتوزعون بامتداد الوطن العربي كله من خليجه إلى محيطه، مثل ما طلب الدكتور فؤاد زكريا!
المهم أنني نجحت في تلبية كل ما طلب، وحصلت من مكتب الجريدة في القاهرة على الخطاب الممهور بتوقيع مديره (الممثل لرئيس التحرير في القاهرة)، وأكدت له أن الحوار سيكون مسجلاً على تليفوني الخاص بصيغة (MP3) وأنني سأتحرّى الدقة والأمانة الكاملة في كل ما سينشر على لسانه.
ووافق الدكتور فؤاد على إجراء الحوار، وضرب لي موعداً مساء الأحد الموافق 7 فبراير 2010 (إذا لم تخني الذاكرة) في منزله الكائن بشارع محمد مندور بمدينة نصر (أحد أحياء شرق القاهرة)، وكان صوته ينم عن فرحةٍ مكتومة أو حاول أن يخفيها بإحساسه أنني تغلبت على شروطه «التعجيزية»!
- 4 -
ذهبت إليه في الموعد المحدد، وجدته متدثراً بملابس شتوية ثقيلة يجلس على كرسيه المتحرك في هدوء وسكون، المنزل بأكمله تتوزع عليه سماعات صوت تصدر منها أنغام موسيقى كلاسيكية تميزها الأذن المدربة أو العاشقة لهذا اللون من الموسيقى (غرام فؤاد زكريا بالموسيقى الكلاسيكية وكتاباته عنها قصة طويلة تستحق أن تروى في مناسبة أخرى).
وبعد عبارات الترحيب والاستقبال أخرجت من حقيبتي الأوراق التي سجلت فيها النقاط التي سأسأله عنها.
وقبل ذهابي إلى فؤاد زكريا حذرني أصدقاء كثيرون من حدة طبعه وغضبه السريع، وبعضهم قال لي إنه إذا لم يقتنع بجديتي وبجدية وعمق الأسئلة التي أطرحها عليه، فإنه من الممكن ألا يكمل الحوار، بل ربما يطردني من البيت شر طردة! أما إذا اقتنع بأنك جاد وعلى مستوى الحوار، فإنه سيستجيب وسيرد على أسئلتك!
وكان هذا المعيار الحاسم في هذه المقابلة! معنى أنها مستمرة ومعنى أنه يتحدث ومعنى أنني أسجل، فهذا يعني لي على المستوى الشخصي والإنساني أنني نجحت في إجراء الحوار مع واحد من أهم العقول والقامات الفكرية في ثقافتنا العربية خلال الخمسين سنة الأخيرة!
وبدأ الحوار، وسألت فؤاد زكريا عن رأيه في أزماتنا الفكرية والعقلية، وسألته عن تقييمه وتقديره للمشروعات الفكرية التي أنجزها عدد من كبار المفكرين شرقاً وغرباً لمقاربة سؤال النهضة والتخلف، وعلاقتنا بتراثنا وعلاقتنا بالحضارة والثقافة الغربية.. إلخ.
كان فؤاد زكريا يرى أن العقل العربي يعاني من مشكلات مزمنة، منها الانسياق وراء الوهم والخرافة، والخلط بين ما هو علمي وغير علمي، والبعد عن مواجهة الحقائق في طبيعتها المحايثة المحايدة. وكان يرى أن التحليل الدقيق للمشكلة هو أن استمرار أو سيادة نمط واحد محدد من أنماط التفكير أو شيوع التفكير اللاعقلاني وغياب المنطق وحضور الخرافة، كل هذا كان يؤدي في النهاية إلى تكريس وتثبيت الأوضاع الصعبة التي تعاني منها الشعوب العربية، ولذا كان يقول: «إن العقول لا تتغير من فراغ، فلا معنى لدعوة تغيير طرق التفكير عند الناس أولاً، ثم بعد ذلك تغيير الظروف والأوضاع، لأن الدعوة بهذا الشكل دعوة معكوسة، لأن العقول لا يُعاد تشكيلها بقرار فوقي أو خطة طويلة المدى، العقول لا تبدأ في التغير إلا بعد أن تتغير الأوضاع من حولها».
- 5 -
ورغم كبر سنه، وافتقاد جزء كبير من طاقته وعنفوانه الصوتي الذي اشتهر به، فقد تدفق في الإجابة عن أسئلتي بكامل حيويته وألقه وتركيزه وومضاته العقلية المذهلة، كان دقيقاً وحاسماً ومحدداً.. استشعرتُ خلال الساعة التي أمضيتها في صحبته (وكان مقدراً لها أن تستغرق ثلاثين دقيقة فقط) أن مشاعره إزائي مختلطة، فيها فرح ممزوج بشجن، وألم ممزوج باستبشار، وأسى يشبه تغريدة البجعة الأخيرة التي تصدر أنغاماً وألحاناً يظنها السامع بهجة خالصة فيما هي تودع الحياة!
نُشر الحوار على صفحة كاملة، آنذاك، يوم 18 من الشهر ذاته، دون أن تتدخل فيه يد المحرر «الديسك» بتعديل أو حذف، من العنوان الرئيس، والمدخل والتعريف، ثم متن الحوار كاملاً كما صغته سؤالاً وجواباً وصولاً إلى نقطة نهاية السطر الأخير.
بعد واحد وعشرين يوماً من نشر الحوار سيودع فؤاد زكريا الحياة بعد أن ترك لنا وللأجيال القادمة، ولعشرات السنين، ما يستحق أن نقرأه ونستعين به على مواصلة السعي للبحث عن عصر تنوير عربي «حقيقي».