ساسي جبيل
لا يمكن وصفها إلا بالعشرية السوداء الحالكة تماماً، ذلك أن «إخوان» تونس أضفوا مستوى من الانحطاط على المشهد جعل المبدعين التونسيين يشمئزون من الواقع الذي فرضوه عليهم، فقد حاول «الإخوان» التسلل إلى كل مفاصل الدولة، ونجحوا إلى حد ما في البداية، ولكنهم اصطدموا بالمثقفين تحديداً، فـ«الإخوان» لا يملكون رصيداً ثقافياً ولا ينتمي إليهم مبدعون؛ ولذلك ناصبوا أهل الإبداع العداء، وكان الفشل الذريع هو النتيجة الحتمية التي وصل إليها «الإخوان» في مختلف القطاعات، وفي مقدمتها القطاع الثقافي.
«الاتحاد الثقافي» استطلع آراء عدد من المثقفين والمبدعين التونسيين حول هذه المرحلة التي عاشتها البلاد خلال السنوات الأخيرة، وما آلت إليه الأمور قبل أن يتخذ الرئيس قيس سعيّد جملة من الإجراءات الاستثنائية لإنقاذ البلاد من خطر «الإخوان» على المستويات كافة.
الحضور الشكلي العقيم
عيسى جابلي، الكاتب والباحث والإعلاميّ التونسيّ، قال لـ«الاتحاد الثقافي»: إن مسألة علاقة «الإخوان» بالثقافة يمكن النظر إليها من زوايا متعددة سأكتفي منها بأربعٍ:
أوّلاً: من حيث هي مؤسسات، وقد حاول «الإخوان» السيطرة على كثير من المؤسسات الثقافية منذ استيلائهم على السلطة قبل عشر سنوات، في إطار خطة «الأخونة» الّتي تحكمهم في التعامل مع مؤسسات الدولة، فبثّوا مناصريهم في مفاصل العديد من المؤسّسات الثقافية، يزرعونهم فيها لمقاومة كلّ نفَس تنويري.
ثانياً: حضورهم الشّكليّ في كثير من التّظاهرات الثّقافيّة لتقديم صورة إيجابية - مضللة عنهم، وأذكر على سبيل المثال حرصهم على حضور بعض الحفلات المهمّة والتّظاهرات الضّخمة مثل معرض تونس الدّوليّ للكتاب ومهرجان قرطاج الدّولي، وهي تظاهرات تحظى بتغطية إعلاميّة واسعة، وتمكّنهم بالتّالي من استقطاب الأضواء وإيهام النّاس بانخراطهم في الفعل الثّقافيّ، وذلك لغايات مشهديّة هدفها الرّئيس حصد الأصوات في الانتخابات، والواقع أنّهم أعداء لكلّ فعل ثقافيّ حرّ.
ثالثاً: عداؤهم للثّقافة التّنويريّة تجلّى بشكل مفضوح، في حفل غنائي شارك فيه الرّاقص التّونسيّ رشدي بلقاسمي في مهرجان قرطاج، مؤدّياً رقصة «الزّوفري» المعروفة في تونس على نطاق واسع، حيث شن «الإخوان» عليه حملة تنمُّر.
رابعاً: مشاركتهم في أحداث عنف كثيرة ضد أعمال فنية، وضد كثير من المفكّرين حيث سعوا لمنع محاضرات لهم ببعض المدن التّونسيّة.. إلخ. وكلّ هذه الأحداث تثبت أنّ عداءهم للثّقافة هو الأصل، وليس ادّعاؤهم الانخراط فيها وتشجيعها إلاّ من باب النّفاق والوجه المزدوج والانتهازيّة في أقصى تجلّياتها، وخاصّة لمّا يتّخذون الثّقافة والعمل الثقافيّ مطيّة لحصد الأصوات في الانتخابات.
عشر عجاف
وتحدث عادل المعيزي، الشاعر والحقوقي وعضو هيئة الحقيقة والكرامة السابقة، رداً على سؤالنا عما فعله «الإخوان» بتونس طيلة العقد الماضي، قائلاً: إنّه سؤال يُطرح بمناسبة سياسية سعيدة وفي جوّ احتفالي حتّى نقيّم المرحلة ونعدّد الإنجازات! لقد كانت عشرا عجافا ليس بسبب الثورة مثلما أصبح الاعتقاد سائداً، ولكن بسبب الالتفاف على أهداف الثورة.
إن مطلب الحرية والديمقراطية والمؤسسات المنتخبة واحترام السيادة وحقوق الإنسان وكرامته وتكافؤ الفرص بين المرأة والرجل، كانت مطلب التونسيين والتونسيات منذ القرن التاسع عشر، وقد قامت حركة التحرّر الوطني التونسي على هذه المبادئ والمطالب، إذ تمّ اعتماد الدستور التونسي منذ 1861 وحرر الطاهر الحداد كتاب «امرأتنا في الشريعة والمجتمع» منذ عشرينيات القرن العشرين وطالب فيه مع مجموعة من رفاقه بتحرير المرأة، ورفع المحتجون في أكبر مسيرة وطنية ضد الاستعمار سنة 1938 مطلب البرلمان التونسي. وتعزّزت مطالب التونسيين والتونسيات بعد الاستقلال بالمطالبة بالحرية والكرامة والتداول السلمي على السلطة، وقد تحقّق لهم ذلك.
وقد استغل الشعب التونسي الظروف بقيادة نخبه وأنجز ثورة شهد لها العالم، ولكن سرعان ما استولت عليها جماعات الإسلام السياسي وخاصة حركة النهضة «الإخوانية»، مع حلفائها من المتطرفين والإرهابيين. وكان «الإنجاز» الأخطر لحركة «النهضة» عندما قرّرت أن تكون حاضنة لأعداء الثورة، وخط دفاع عن الفاسدين، وقد أمضت منذ ذلك الوقت عملياً على شهادة وفاتها.
وعلاوة على هذا اعتمدت أيضاً سياسة «الأخونة» وقفزت على القوانين وخرقت استقلال القضاء، ومكّنت أتباعها من الوظائف العليا في الإدارة. وعملت على حماية كل من تجاوز القانون وعبّر عن ولائه لها. ولذلك انكشف زيف دعاواها أمام الشعب التونسي فحسم موقفه ضدها ومن خلالها ضد الإسلام السياسي.
ثقافة معطلة وإبداع محاصر
الروائي التونسي إبراهيم الدرغوثي أكد، هو الآخر، أنه منذ أن عُطلت اللجنة الثقافية الوطنية وفروعها الجهوية والمحلية في كامل البلاد التونسية في عهد حكومات «النهضة» ومن والاها من الأحزاب التي كانت تدور في فلكها، كاد الفعل الثقافي يموت على مدى عشر سنوات من حكم الإسلام السياسي في تونس. وكيف لا وهذا الحزب لا يؤمن أصلاً بالإبداع الأدبي والثقافي، فخلال تلك العشرية السوداء التي مرت على تونس كثرت الاعتداءات على المثقفين والمبدعين من فنانين ورسامين وكُتاب. ولعل من أشهر هذه الوقائع الهجوم على معرض «العبدلية» سنة 2014.
إن الإبداع لا يمكنه أن يعيش إلا في بيئة مسكونة بالحرية، وفي رعاية دولة تؤمن بحرية المبدع وتحترمه مادياً وأدبياً، ولكننا في تونس منذ بداية حكم «الإخوان» عايشنا وزارة ثقافة نُهبت وأُنهكت ميزانياتها على مدى السنوات العشر الأخيرة. وبذلك صارت هذه الميزانية أقل من 0.5 في المئة من ميزانية الدولة، بعدما كانت في حدود 1.25 في المئة في الميزانياية قبل 2011. وبهذا ساهت وزارات الثقافة في عهد الإسلام السياسي في تدهور أحوال الثقافة والمثقفين طوال سنوات حكم «النهضة».
الاختناق والمحاصرة والرصد
الباحثة والكاتبة بلقيس خليفة قالت: حين نتحدث عن علاقة حركة «النهضة» بالثقافة في العشرية الأخيرة من تاريخ تونس لا يمكن لأحد أن ينكر التوتر الواضح بين الحركة في شكلها الرسمي والشعبي والنخب المثقفة في البلاد. وهو توتر وتباين تعود أسبابه بالأساس إلى تصادم أفكار ومشاريع حركة سياسية ذات مرجعيات ماضوية وافدة بطبقة مثقفة نشأت في مناخ حداثي أرسته سياسة دولة الاستقلال وسارت على نهجه السياسات اللاحقة.
وقد نتج عن هذا التباين صدامات كثيرة في عدة مناسبات ثقافية، وما كان يتعرض له مثقفون ومفكرون في تونس من حملات ممنهجة للتسفيه والسخرية والتهكم تصل أحياناً إلى حد التكفير وإهدار الدم والتهديد بالتصفية. وكل ذلك يكشف بوضوح أن المناخ الثقافي في تونس خلال عشرية «الإخوان» كان مختنقاً ومحاصراً في شتى المجالات، وذلك إما بإيعاز مباشر أحياناً من حركة «النهضة» غبر تصريح قياداتها، أو بشكل غير مباشر عبر التواطؤ المشبوه والتساهل والصمت الشامت الداعم لما يحدث.
ضرب الإبداع وتكفير المبدعين
أما الباحث والأديب التونسي بلقاسم بن جابر، فقد أكد أن العشرية التي عاشتها تونس، بعيد سقوط نظام بن علي 2011، كانت كارثية على الصعد كافة، ولئن استحوذ الجانبان السياسي والاقتصادي على جل اهتمام المتابعين للشأن التونسي في تلك الفترة، فإن القطاع الأكثر تضرراً في الواقع كان القطاع الثقافي الذي شهد انتكاسات خطيرة انطلقت من حرب ثقافية هوجاء أرادت ضرب الإبداع والفن وتشويهه وتكفير الشعراء والمسرحيين والرسامين، والسعي إلى تكريس خطاب الكراهيّة وإغراق البلاد بالفكر التكفيري، فقد شهد معرض الكتاب بتونس سنة 2012 حالة غريبة فقد تحول إلى ما يشبه المشهد الجنائزي الأسود الكئيب، وتداول على الوزارة وزراء الترضيات الحزبية باستثناء المحاولة الإنقاذية مع محمد زين العابدين، حيث نجح في إعادة مشروع مدينة الثقافة الذي تركه الرئيس الراحل بن علي شبه مكتمل وأراد «الثورجيون» طمسه.
لقد أدرك المثقفون التونسيون أنَّ ثمة مشروعاً لهدم المسار الثقافي التونسي الذي بناه الآباء المؤسسون كمحمود المسعدي ومحمد مزالي والشاذلي القليبي والبشير بن سلامة، ذلك الهدم الذي انطلق بحل اللجان الثقافية المحلية والجهوية والوطنية، وهي ركن أساسي في التنمية الثقافية، وفي تشجيع حركة الإبداع والنشر.
لقد كانت تونس تفخر بأنها بلد الـ300 مهرجان ثقافي، وبلد الحضارات والأوابد الأثرية منذ عصر ما قبل التاريخ، وبلد الرشيدية والمسرح والفنون، وهي تتوق الآن بعد أن تخلصت من مشروع رجعي مظلم إلى تصحيح المسار الثقافي، فلا معنى لتنمية مستدامة لا تكون الثقافة حجر الزاوية فيها.
تعطيل الإبداع وإهانة المثقف
أما الشاعر محمد الهادي الجزيري، فقد تأوّه بكل صدق، معرباً عن عمق خيبة الأمل طوال عقد وقال: «الإخوان» دمّرونا.. إنّهم جراد أتى على كلّ شيء جميل ومثمر وحيّ في تونس، حوّلوها في عشرة أعوام إلى بؤرة لتصدير «الدواعش» وقتل الفنّ ووأد الثقافة.. شخصياً ما زلت مصدوماً ممّا جرى وما حدث.. تونس الخضراء صنيعة بورقيبة ومنجزه الفريد أصبحت مأوى للجهلة والتكفيريين.. لقد كُشفوا وسقطوا.. والآن أتى الحساب.. وسيكون عسيراً.. فقد أفلسوا الدولة وابتزُّوا رؤوس الأموال.. ودمّروا تونس البهيّة. أمّا في مجال الثقافة فحدث ولا حرج.. فقد عطلوا الفكر وأطلقوا جماعتهم في كلّ مجال.. وفي عهدهم المنحوس جوّعوا الشعب.. وأهانوا المثّقفين.. ولم يعد المواطن يذهب إلى أمسية شعرية في دار ثقافة.. فقد أقفرت كلّ الدور من روادها.. ولم يعد يذهب للسينما أو للمسرح أو لحفل موسيقي.. فقد صار كلّ ذلك مضيعة للوقت! وأنتظر في هذه الفترة أن يكون العقاب الشعبي رادعاً ومنصفاً.. وأعتقد أنّ يوم 25 يوليو.. ولا رجوع للوراء بعده.. يوم قال فيه الشعب التونسي كلمته الفصل: لا مكان لـ«الإخوان» في تونس.
شهادة مدير بيت الرواية
وفي سياق هذا الاستطلاع، قال الأسعد بن حسين مدير بيت الرواية: شهدت الثقافة والمؤسسات الثقافية في تونس هجمة ممنهجة من أجل إضعافها، وتحويل مسارها في السنوات الأخيرة (بعد 2011)، ولعل أكبر كارثة إدارية شهدها النشاط الثقافي هي إلغاء العمل باللجان الثقافية (اللجنة القومية واللجان الجهوية والمحلية) التي كانت تؤطر العمل الثقافي والفني على المستويين الإداري والمالي، وهذا الإلغاء تم في عهد وزير من حركة «النهضة»، وتم دون توفير بديل يضمن تأمين الأنشطة، وخاصة على مستوى التسيير المالي للمؤسسات الثقافية الذي صار من مشمولات القباضات الجهوية، وهي مؤسسات مالية لا علاقة لها بالثقافة وتتعمد تعطيل صرف مستحقات الفنانين والمنشّطين لأشهر طويلة.
صحيح أن الكثير من المثقفين بعد الثورة طالبوا بحل اللجان الثقافية، ولكنهم اقترحوا تعويضها بمجلس أعلى للثقافة منتخب وممثل، ومجالس جهوية للثقافة، ولكن مسؤولي «النهضة» حلوا اللجان الثقافية وتجاهلوا إنشاء مجالس أخرى للثقافة.
وعمد الإسلامويون كذلك إلى إغراق الساحة الثقافية بمئات الجمعيات الثقافية الوهمية، أو غير المختصة، على حساب الجمعيات الأدبية والمسرحية والسينمائية، وغيرها حتى يقع إضعاف الجمعيات المتميزة (الجمعيات لديها ميزانيات سنوية تقسم عليها وكلما كثرت صارت الميزانية أقل).
وهذا التوجه جعل العديد من المهرجانات العريقة تضعف ميزانياتها وتلغي دورات عدة في السنوات الأخيرة (المهرجان الدولي لفيلم الشباب والطفولة بسوسة، الملتقى الدولي للرسوم المصورة بتازركة، مهرجان قربة لمسرح الهواة، المهرجان الدولي لسينما الهواة بقليبية، ملتقى مركز الرواية العربية بقابس، مهرجان المحرس للفنون التشكيلية.. إلخ).
وشهدت هذه السنوات كذلك هجوماً من قبل جهات متطرفة على تظاهرات ومعارض فنون تشكيلية (حادثة قصر العبدلية، ومدينتي مساكن والكاف)، مما جعل عدد هذه المعارض يتقلص بنسبة كبيرة مما ولّد حيرة عند الرسامين والنحاتين حول كيفية ترويج منتوجهم والتعريف به.
وعلى مستوى الكتاب، وقع في السنوات الأخيرة أيضاً رفع سعر الورق الكثير من المرات، مما تسبب في ارتفاع سعر الكتاب وتذمر الناشرين والكُتاب على حد سواء.