الثلاثاء 5 أغسطس 2025 أبوظبي الإمارات 35 °C
مواقيت الصلاة
أبرز الأخبار
عدد اليوم
عدد اليوم
التعليم والمعرفة

«ياويودي».. قصيدة الوجد العميق

«ياويودي».. قصيدة الوجد العميق
24 ابريل 2021 00:45

إبراهيم الملا

«يا ويودي يا ويودي يا ويودي .. يوم ييت إيلا منازلهم عفيّه
قمت أشورف واتلفّت للعنودي .. وأصفق اليمنى على اليسرى خليّه
أه من وقت مضى ليته يعودي .. وآه من دنيا غِدَتْ فُوتٍ عليّه
عُقب مركوز النّهد يثل اليعودي .. واليدايل طيّه من فوق طيّه
ويل منهو في البحر سيبه حبوتي .. إن نبر ياه اليدا تسعين طيّه
قال تنير تحت بيص الجالبوتي .. وإن نشعتك بار باتقطع يديّه»
يتجلّى الوجد بأرقى معانيه في قصيدة الشاعر: «خلفان بن حارب بالمشوي القبيسي»، والذي يبدو أنه كتبها بماء القلب، ذلك أنها تحتشد برقّة البوح، وأصداء البحر، وطقوس الغاصة، وهيبة الأزرق الكبير، وهي قصيدة تنحاز، وبقوة، لتأوّهات الذات وآلامها وسط الغياب والحضور، والغفلة والانتباهة، والهدأة والصخب، وكما هو واضح من بنية القصيدة ومناخاتها، أن الشاعر استحضر الجمال كلّه، واستحوذ على متلقي القصيدة بنظم رشيق رغم قسوة الحال، وبمفردات عذبة رغم صدمة المشاهِد وعذاباتها، استخرج القبيسي من لجة فؤاده درراً عزيزة نثرها في فضاء الشعر، فظلّت ماثلة ببريقها ووهجها إلى اليوم، واحتفظت بإشراقتها البهيّة رغم انقضاء السنين وتكالب الوقت وتراكم الزمن.
يكشف الشاعر عن سرّ معاناته في الشطر الأول بمطلع القصيدة، من خلال توكيد صارخ وتكرار لازم ولثلاث مرات متتالية: «يا ويودي .. يا ويودي .. يا ويودي» والمقصود بالكلمة: «يا وجودي»، حيث ينطق حرف «الجيم» «ياءً» في المنطوق الشعبي، والكلمة تعبّر بعمق عن مدى طغيان «الوجد» عليه وتوافد الأسى على حواسّه، فصار هذا «الوجد» هو عتبة القصيدة ومدخلها الأهم، لتأتي باقي الأشطر والأبيات كإضاءة وتفسير وسرد لما تختزنه المقدّمة العاصفة والجارفة من معانٍ وأخيلة ومناخات متراوحة بين الاغتراب والشوق، والفقد والحنين، واللوعة والذكرى، وهي مشاعر متفاوتة خبرها «القبيسي» جيداً أثناء رحلة الغوص بكل مشاقّها وتحولاتها، وبعد العودة إلى الساحل وانكشافه على مشهد حزين خلّفه رحيل المحبوب إلى أرض «المقيظ» البعيدة، وترك المكان خاوياً من جمال المحيّا، ومنزوعاً من لذّة النظر.
يقول خلفان القبيسي في الشطر الثاني من مطلع القصيدة: «يوم ييت وايلا منازلهم عفيّه» ليؤسس الحبكة الأهم في السيناريو البصري لقصيدته، حيث تتحول الصدمة المشهدية بعد رؤيته لمنزل المحبوب الخالي من سكّانه إلى منصّة تعبيرية تنقل وبدقة نبض التحولات بين مكانين مختلفين وزمنين متغايرين، وهي منصة تجمع بين تصوير الراهن وملابساته «الوعي الآني»، وبين استعادة مشاهد الغوص وتقلّباته: أو ما يمكن أن نطلق عليه بالمصطلح الدرامي: «الفلاش باك» أو «الوعي بالماضي»، واستخدام الشاعر لكلمة «عفيّه» فيه تشبيه بليغ للمكان الذي عفى عليه الدهر، وأن وقتاً طويلاً قد مضى منذ ترك المحبوب لمنزله، لقد صار الموقع أقرب للأطلال من وجهة نظر العاشق الولهان والممتلئ لهفة وتوقاً لرؤية معشوقه.
يبلغ المجال الحسيّ ذروته في البيت الثاني من القصيدة: «قمت أشورف وأتلفّت للعنودي .. وأصفق اليمنى على اليسرى خليّه»، ولكن بلوغ الذروة في الشطر الأول أفضى إلى انكسار مخيّب للآمال في الشطر الثاني، وهذا التحوّل المشهدي العنيف، جعل معنى «الخلوّ» أو «الخلاء» مضاعفاً، مرّة أثناء معاينته خارجياً في المنزل المهجور، ومرة أخرى عند الإحساس به داخليّاً «أصفق اليمنى على اليسرى خليّه».
أما في البيت الثالث فنرى تجسيداً ملموساً لتقنية «الفلاش باك» أو «اللحظة المستعادة»، حيث يقول شاعرنا: «آه من وقت مضى ليته يعودي .. وآه من دنيا غدت فوت عليّه» وهذا «التأوّه» المنطوق لفظاً وقولاً له امتداد أيضاً في الفضاء التجريدي للبيت الشعري، فهو يجمع بين ضدين في سياق مشترك، ويوائم بين مسارين مختلفين في طريق واحد، لكنه طريق محاط بالضباب والعتمة والغموض، فبين ماضٍ مفرح، وحاضر محزن، ضاعت بوصلة الشاعر، وفتكت به المتاهة، حتى اختلطت عليه الجهات والأزمنة، وصار أمثولة للشتات.
يستعيد الشاعر في البيت الرابع صفات المحبوب ومزاياه، وكأنه يسلّي خاطره، ويعزّي ذاته، ويتشبثّ بالأمل، مستحضراً بدقة ملامح الحبيب الغائب، وكأنه ماثل أمامه، ومتجلٍّ له بكامل قوامه: «عقب مركوز النهد يثل اليعودي .. واليدايل طيّه فوق طيّه» لتأتي براعة الوصف كتعويض عن الغربة الروحية والمودّة المُفتَقدة، ذاكراً تمتّع المحبوب بالقوام الرشيق، والشعر الكثيف، والجدائل الملتوية بعضها فوق بعض من فرط الطول والغزارة.
ونرى في البيتين الخامس والسادس تصاوير عجيبة ومقارنات مدهشة بين حالة الشاعر أثناء الغوص الفعلي في أعماق البحر، وبين حاله أثناء الغوص الافتراضي في أعماق الأسى:
«ويل منهو في البحر سيبه حبوتي .. إن نبر ياه اليدا تسعين طيّه
قال تنبر تحت بيص الجالبوتي .. وإن نشعتك بار باتقطع يديّه»
وهذه التواصيف الدقيقة لا يمكن أن يوردها سوى العارف الخبير بأسرار وعلوم الملاحة، وتفاصيل مهنة الغوص، وعمليات استخراج اللؤلؤ، وهي تواصيف تكتمل شكلاً ومعنى في البيتين الأخيرين من القصيدة، حيث يقول «القبيسي»:
«قلت خذ غبّ اليدا تكفي لا موتي .. وألتفت وسط الصدر يرطن عليّه
بين سَكْرٍ وبين وَكْر وبين حوتي .. في غبيب الصّير والمطّه ونيّه»
يشبه الشاعر نفسه هنا بالغوّاص الباحث عن اللؤلؤ والمرتهن مصيره في القيعان السحيقة والموحشة، بالحبل الممسوك بواسطة «السيب»، فإذا غفل عنه هذا السيب سيكون مقبلاً على خطر عظيم، قد يفقد فيه حياته، ويورد الشاعر تفصيلة غاية في الأهمية، حيث يذكر كلمة «حبوتي»، وهي - كما أخبرنا الباحث الدكتور حمّاد الخاطري - تعني السيوب «مفرد سيب» الذين يستعان بهم في مهنة الغوص ويؤتى بهم من برّ فارس ويطلق عليهم اسم «الحبوت»، وفي هذه التفصيلة يقحمنا الشاعر في أجواء الخوف والترقب والحذر التي يجابهها الغاصة، عندما يكون حبل السيب متأرجحاً بين الماء والهواء، أي بين الغرق والنجاة، خصوصاً إذا كان السيب شخصاً لا يفهم مقصود الغوّاص، وقد يقود هذا اللبس وعدم التفاهم إلى حدوث الأهوال والمصائب، والدخول في مغامرة صعبة ومرعبة، حيث يربط الشاعر بين ذاكرة الرعب هذه وبين الوقائع التي جرت عليه في الساحل بعد رحيل محبوبه، فهو غريق الهوى الذي لن ينفعه حبل «السيب» بعد اليوم.

دوافع ومعطيات
للتعرف على دوافع ومعطيات نسبة القصيدة للشاعر غصّاب المنصوري بدلاً من ناظمها الأصلي خلفان القبيسي التقينا بالباحث الدكتور حماّد الخاطري النعيمي، الذي أثبت في كتابه «الظفرة.. شعر وشعراء» نسبة القصيدة للقبيسي، والذي علّل لنا سبب الخلط إلى استئناس الرواة بالفهم الراجح لديهم وهو نسبة القصيدة للشاعر غصّاب لقربها من أجواء قصائده الغزلية، ولملاءمتها لمناخات شعره وأسلوبه الرقيق والعذب، ونوّه الخاطري أن هذا الفهم لا يعني أخذ الأمر على علّاته، لأن كشف هذا اللبس والاستقرار على رأي واحد، بحاجة لفحص دقيق قوامه البحث والمعاينة والمقارنة والتقصّي المجرّد من العاطفة لمعرفة الحقيقة، وهو ما قام به الخاطري فعلاً عندما التقى بأقارب الشاعرين وتحرّى عن مصدر القصيدة، ليتأكد لاحقاً أنها للشاعر خلفان بن حارب بالمشوي القبيسي، وهو شاعر - كما أشار الخاطري - من فخذ آل هليل من قبيلة القبيسات، ولد في جزيرة دلما بأبوظبي وعمل في الغوص، وتوفاه الله في نهاية الخمسينيات من القرن الماضي. وقال الخاطري: هناك شعراء بارزون عاشوا في فترة متداخلة واختبروا ظروفاً اجتماعية متشابهة، فكانت ثقافتهم مشتركة، وكانت أساليبهم ومواضيعهم الشعرية متقاربة، ما جعل نسبة القصائد لهم من قبل الرواة مشوبة باللبس والخلط، مضيفاً أننا نلتمس في قصيدة «يا ويودي» عمق الوعي لدى الإنسان الحضري، المرتبط وجدانياً وجسدياً بالبحر وبمهنة الغوص، مستطرداً: «رغم أن الشاعر (غصاب) قد عمل بمهنة الغوص، فإن القبيسي كان أكثر خبرة في هذا المجال، وأكثر استخداماً وتوظيفاً لمفردات البحر في قصائده»، مؤكداً أن قصائد غصاب يغلب عليها أجواء البداوة وفيها شيء من الخشونة، بينما يطغى الحس الرهيف على قصائد القبيسي لاقترانها بصوت الماء ونسائم البحر وحركة الأمواج، لذلك تجسّد قصيدته هذا الحسّ المائي .. الرطب، والمتماوج، والرقيق في سبكه وتوليفه.
ونوّه الخاطري إلى أن الناس في الماضي كان لديهم رموز شعرية أمثال الهاملي وابن ظاهر وغيرهم، فأغلب القصائد المرتبطة بـ «الونّه» في منطقة ليوا نسبوها للهاملي، وأغلب القصائد القديمة المرتبطة بالحكمة نسبوها لابن ظاهر، وهكذا تم نسبة قصيدة «يا ويودي» لغصّاب لأنه كان في زمنه رمزاً للقصيدة الغزلية.
وفي سؤال حول تغيير بعض كلمات ومفردات قصيدة «يا ويودي» والزيادات التي جرت على أبياتها، أوضح الخاطري أن هذه التغييرات واردة وتحدث كثيراً في القصائد المتداولة بين الناس، بسبب السهو والنسيان أحياناً، وبسبب ضعف وسائل التواصل أحياناً أخرى، إضافة إبدال الرواة لبعض المفردات والكلمات في القصيدة بسبب غموضها أو غرابتها بالنسبة لهم.

  • جابر جاسم
    جابر جاسم

مطربون
قام عدد من المطربين الإماراتيين بتلحين وغناء قصيدة «يا ويودي»، ويعود الفضل في تحويلها إلى أغنية اشتهرت في وقتها إلى فنانيْن معروفيْن هما: جابر جاسم، ومروان الخطيب، بينما قام كل من الفنان خالد محمد، والفنانة فاطمة «زهرة العين» بأداء الأغنية لاحقاً وبنفس اللحن، كما غناها علي سعيد وسعيد القبيسي.

  • فاطمة «زهرة العين»
    فاطمة «زهرة العين»

«ونّيت»
من القصائد النادرة التي تم توثيقها للشاعر خلفان القبيسي قصيدة «ونّيت» التي أوردها الباحث الدكتور حمّاد الخاطري في كتابه (الظّفرة .. شعر وشعراء) ويقول فيها القبيسي الذي يصف حاله بعد الهجر والنأي والحرمان، ويذكر فيها المواقع التي مرّت بها محبوبته أثناء سفرها من الساحل إلى مكان «المقيظ»:  

  • حمّاد الخاطري
    حمّاد الخاطري

«ونّيت ونّات مراضيف / لو تعلم بحالي يا خلفان
شلّ الضحى والعصر م السيف / حوّل ولبّوا له صبيّان
غضّ الصبا بو خشيمٍ رْهيف / عقب البحر يوّد على سّمان
م الهين دنّوا له مكاليف / ما يوّدوا له فوق جدعان
مرّن على (برمة) مخاطيف / والعصر داسن (بدع حبشان) 
ونهار معطانه (بدع سيف) / بشّت به الديرة والأوطان

إلى أن يقول:
«ياه المسلّي في مخاريف / ما هوب متسايل وخضلان
ولا ياك صوب مقيضه ضعيف / ولا انتكر زينِه ولا شان
ولا همّته دنيا المشاظيف / يعمل البنّ ويذبح سْمان»

 

 

جميع الحقوق محفوظة لمركز الاتحاد للأخبار 2025©
نحن نستخدم "ملفات تعريف الارتباط" لنمنحك افضل تجربة مستخدم ممكنة. "انقر هنا" لمعرفة المزيد حول كيفية استخدامها
قبول رفض