إبراهيم الملا
عزّات يا ويلاه يا ويلْ / ع الزّين اللّي ماله أمثال
يا شبه ريمٍ عقب لمجيل / ذاير وقَبْضْ اللّيد با محال
صدّ ورماني بالتعطّيل / خَصّ وْبَخَصْ وانوى لي أفعال
وتلومني ناسٍ معاذيل / لي ما دروا بالحبّ جتّال
يؤكد الشاعر الكبير عيسى بن سالم بن شقّوي في أبياته الغزلية السابقة على قدرته الملحوظة في التماهي مع البيئة المحيطة به، واستخلاص التعابير المرهفة من حيثيات المكان وتفاصيله، رغم أن البيئة التي ترعرع وسطها شاعرنا، وهي بيئة البادية قد تخدع المتأثر بالصورة النمطية عنها، والمشيرة بشكل مغلوط إلى افتقارها للتفاصيل الحاضرة والملموسة كما في المدن والحواضر، فقوة الوصف لدى «بن شقّوي» تجعل «المدلول» متفوقاً على «الدالّ»، وتصبح الفكرة أو الصورة الذهنية هي المجال الحيوي الأكثر خصوبة لتوليف القصيدة وتزيينها بالأخيلة والمعاني، وفي الوقت ذاته نرى الشاعر محتفظاً بظلال وتأثيرات البادية ببعديها البصري والحسّي، مستفيداً من كلا البعدين في تشكيل بنية القصيدة، وطريقة سبكها وصياغتها، إشباعاً لرغبته الذاتية في البوح والتعبير، وتلبية كذلك لحاجة المتلقي في الاستمتاع بأجواء القصيدة وبمفرداتها العذبة.
يلجأ شاعرنا لحرف «اللام» في نهاية القافية الموزعة على شطري البيت الشعري، وجعلها قافية متحركة هبوطاً في الشطر الأول (ويل) وصعوداً في الشطر الثاني (أمثال)، وهو خيار موفق لصنع إيقاع متماوج يشبه التشكيلات الظاهرة على رمال البادية، المتأرجحة بين علوّ وانخفاض، وانبعاجٍ وبروز، وعمقٍ وتكوين، مستثمراً التنوّع المشهدي أمامه، لخلق لوحة شعرية يملأها اللون والصوت والثبات والاهتزازة، مستعيداً صورة المحبوب في مشاع البريّة ومتقصّياً حالاته المتناوبة بين السكون والحركة، والركون والانطلاق، مستعيناً بصورة (الريم) أو الغزالة ليعقد مقارنات غاية في الدقّة الجمال بين المشبّه، والمشبّه به، (يا شبه ريمٍ عقب لمجيل / ذاير وقبض اللّيد با محال) فالمحبوب في سكونه وهدأته وقت القيلولة، يشبه الغزالة المسترخية التي تغري الصيّاد للاقتراب منها، ولكنها عندما تجفل وتفزع (ذاير) من الغريب القادم نحوها، تصبح عصيّة على القبض، ومن المستحيل الظفر بها واصطيادها، ونظراً لندرة (الريم) في البادية، فإن الإشارة تحاكي المُشار إليه، فالمحبوب ينتمي لصفوة البشر، ولا يمكن اللقاء به والاقتراب منه بالسهولة التي يتخيلها البعض، فبجانب بهائه وجماله، فهو أيضاً صعب المراس وواسع الحيلة. ويقال في لغة العرب: «ذيّر الرجل الصيد تذييراً إذا أفزعه، والذيرة هي الفزع»، ولذلك فإن استعانة شاعرنا بكلمة «ذاير» في القصيدة تدلّ على غزارة مخزونة اللغوي، ما يجعله قادراً على ضخّ القصيدة باستعارات وكنايات متّسقة مع مطلب الشعر وغايته.
يقول «بن شقّوي» في البيت الثالث من القصيدة إن توقه للمحبوب قوبل بالصدّ والتعطيل، وفي إشارة ذكية منه استطاع أن يزيح صفة القسوة عن محبوبه، عندما أوضح في الشطر الثاني من البيت أن الصدّ هو من صفات الغنج والدلال والتمنّع، وأنه صدّ مخادع، المقصود به لفت النظر وجرّ العاشق إلى شراك الحب المعدّة سلفاً (خصّ وْبَخَص وانوى لي أفعال) مؤكداً هذا التفسير في البيت الرابع، عندما وجّه لومه للعذّال والشامتين، ذلك أنهم لم يختبروا المزيج السحري من العذاب والعذوبة، وهو مزيج يتلّذذ به العشاق وحدهم، ولا يعرف سرّه وكنهه إلّا من خبره وذاق رحيقه واستشعر خباياه ومزاياه.
يكمل الشاعر قصيدته الغزلية اللافتة هذه قائلاً:
«ظامي وابا من شربة النيل / شحّ برواه وياب ما اللال
ما بتْهَنيني شربة الغيل / إمّا نزلت العدّ بحبال
ولا بنثني عن رمسة اللّيل / لو يحطّ لي في الريل زنجال
قيدٍ مصفّى م الصناجيل / بدعيه ميل الصيخ نشّال»
يذكر «بن شقّوي» في هذه الأبيات أوصافاً جسدية ومعنوية غاية في الإدهاش من حيث التراتبية المتصاعدة لأحوال العاشق، فهي تبدأ من الظمأ الوجداني وتعبر نحو حيرة القلب، وتنتهي بالحصر النفسي والمكابدة الداخلية الأشبه بسلاسل الحديد الثقيلة، المعيقة لحرية الانفلات وصفاء الذهن، ولكن كما ذكرنا آنفاً، فإن العاشق يتلذذ بعذاباته وحيداً، ولا يبالي بحجم هذه العذابات وقسوتها، فهي تدلّ على صدق معاناته وقوة صبره وتمسكه بأمل اللقاء حتى آخر لحظة، وتتوضح براعة الشاعر «بن شقّوي» في الوصف من خلال جمعه بين صفات متضادة، يربطها بخيط مرهف من الصلات الخفية، بحيث يكتمل المعنى ويصفو الكلام وتتألق المفردات، وهي تقدم خلاصة تجربة الشاعر وقيمة ما يختزن في أعماقه من إحساس راقٍ وبوح ماتع وتعبير فاتن، يجمع الشاعر وفي بيت واحد بين مفردات الظمأ، والماء النقي (شربة النيل) وبين السراب (اللال) ليقدم لنا صورة فائضة بجمالياتها، وليقحمنا في مدارات الهوى ضمن أمثلة ملموسة وموظفة جيداً لتعكس ما يقع خلفها من رموز وإشارات عميقة ودالة وذات بريق شعري ساطع.
وتورد الباحثة فاطمة مسعود المنصوري، في دراسة لها بعنوان: «الغدير في ذاكرة شعراء الإمارات»، مجاراة جميلة بين الشاعر عيسى بن شقّوي والشاعر خليفة بوعويا الشامسي، حيث يصف كلا الشاعران الوديان ومجرى البطاح والغدران من خلال ذاكرة الأماكن التي تمرّ بها تلك الغدران، وهنا تبرز - كما تشير - قيمة الأمطار والسيول وربطها بالمكان في المشهد الشعري الإماراتي، يقول عيسى بن شقّوي في هذا الصدد:
«قيّل ع وادي كالغتال / يدوق ويهبّه الريح
على المشاتي والرمال / هذا الفعل ريته عنيف
وع (الراعفة) غدّر وسال / وطاح البحر مايٍ نظيف»
أما الشاعر خليفة بوعويا، فيقول:
«زفّاف ومسيرها حِدَر / داست (بياته) و(العطين)
غيول ومسويه غِدَر / والناس منها مرتوين»
وتضيف الباحثة فاطمة المنصوري أن هذه القصائد توضح المكانة المميزة التي احتلتها الغدران في نتاج شعراء الإمارات، حيث ربطوا بينها وبين حبهم للأماكن التي ترعرعوا بها وعاشوا فيها، ذاكرين من خلال قصائدهم منافعها المتعددة، ومستوحين منها مواضيع تعزز أغراضهم الشعرية كالغزل والاجتماعيات وغيرها.
البوادي
ولد الشاعر عيسى بن سالم بن خليفة بن شقّوي في «البطحاء» ببادية أم القيوين، عام 1890، وتوفي - رحمه الله - عام 1966 بمنطقة مشرف بدبي والتي انتقل إليها مع أهله وعشيرته واستقر بها أواخر الأربعينيات من القرن الماضي، وبسبب جرح لازمه وترك علامة واضحة على شفته العليا، أطلق عليه الناس المحيطون به لقب «المشروم»، وظل معروفاً بهذه اللقب حتى وفاته، ويعدّ «بن شقّوي» الركن الثالث الأهمّ في المشهد الشعري بأم القيوين وباديتها المحاذية لبوادي الشارقة ورأس الخيمة، حيث يشترك مع الشاعرين الكبيرين محمد بن راشد الرزّي الملقّب بـ «شبير»، وخليفة بن جمعة بوعويا الشامسي الملقب بـ «الخليفي»، في صياغة الحالة الشعرية الحيوية المتميزة بالقوة والعنفوان والانتشار في مناطق أم القيوين وفي إمارات الدولة الأخرى، وقد خلّدت الذاكرة الشعبية قصائد هؤلاء الرواد الثلاثة، نظراً لما تمتّعت به قصائدهم من أبعاد عاطفية وإنسانية، شكّلت في النهاية رصيداً وافراً من الأشعار الزاهية لدى الحفاّظ والرواة، فتناقلوها في حلّهم وترحالهم، وأوصلوا صوت هؤلاء الشعراء الكبار إلى نطاق أوسع ومجال أرحب، يليق بإبداعاتهم، ويكافئ ما يستحقونه من إجلال وتقدير، رغم غيابهم الملحوظ عن الرصد الإعلامي، بسبب رحيلهم في فترة سبقت قيام دولة الاتحاد، وبسبب ندرة المخطوطات الموثقة لقصائدهم، ويستثنى من ذلك الشاعر الخليفي المتوفى في العام 1978م والذي شارك في أواخر حياته ببرنامج شعراء القبائل بتلفزيون دبي، وهو البرنامج الذي بدأ بثّه في أوائل السبعينيات من القرن الماضي.
حياة صعبة
عاش الشاعر «بن شقّوي» حياة صعبة بسبب قلّة الموارد في بدايات القرن العشرين، خصوصاً أن أهل البادية كانوا يعتمدون على بيع ما يتوفر لديهم من عطايا الطبيعة من خلال نقلها إلى الأسواق المطلة على الساحل، وكان شاعرنا ينقل على ظهر إبله الحطب والفحم وحشائش (الثمام) ليبيعها في مدن الساحل بأم القيوين والشارقة وعجمان ودبي، وانضم الشاعر لاحقاً للعمل ضمن فريق الحراسة التابع للشيخ أحمد بن راشد المعلا، حاكم أم القيوين في العام 1929م، ثم انتقل في النصف الثاني من حياته، وتحديداً في أواخر الأربعينيات المنصرمة، إلى مناطق القصيص والقرهود بدبي، واستقر نهائياً بمنطقة «مشرف» هناك حتى رحيله.
راشد المزروعي: أحد فحول شعراء النبط
يصف الباحث الدكتور راشد أحمد المزروعي شاعرنا «بن شقّوي» بأنه أحد فحول شعراء النبط الشعبيين في الإمارات، وأنه تميّز بقصائده الواصفة للبطائح ولفترة هطول الأمطار، كما تعكس أشعاره قوة أسلوبه وميله لفنون الردح وعلو كعبه في الغزل والشكاوى والمدح والاجتماعيات وقصيد الإبل والتغاريد، مضيفاً أن «بن شقّوي» يعد من أشهر شعراء المناطق الشمالية، الذين لم يكتب عنهم الباحثون، ولم ينتبه إلى شعرهم أحد، قائلاً: إنه يقف مع شعراء المقدمة بين شعراء الإمارات المرموقين، حيث برع في جميع فنون الشعر.