نَزْرةٌ هي الروايات التي حضرت فيها الكاتبة باسمها الصريح. ومن هذا النَزْر روايات علوية صبح: (دنيا - مريم الحكايا - اسمه الغرام)، ورواية نورا أمين: (الوفاة الثانية لرجل الساعات)، ورواية مها حسن (عمتِ صباحاً أيتها الحرب)، ورواية فوزية شويش السالم (رجيم الكلام)، وهن على التوالي من: لبنان، مصر، سوريا، الكويت.
ولا يعني حضور الكاتبة باسمها الصريح، أو باسم آخر، أو بلا اسم، في الرواية، أننا نقرأ سيرة ذاتية، كما تتوهم القراءة الذكورية التي تطابق بين الكاتبة والشخصية الروائية، فالأمر في أحسن حالاته من «التخييل الذاتي». وتبدو هنا أهمية ما قد يتوفّر عن الكاتبة خارج روايتها، حين تتقنّع باسم آخر في الرواية، كما فعلت غادة السمان في روايتها (الرواية المستحيلة - فسيفساء دمشقية) حين تقنّعت باسم «زين».
من تجليات ذلك فيما للكاتبة من الرواية في الإمارات، ربما تكون البداية في رواية سارة الجروان «رسائل إلى السلطان»، حيث تحكي الجدة حكاية الشابة حصة التي رمتها الأحلام على قمة جبل قهب، وفيه قصر مهجور كان لسلطان عظيم. وليست الرواية سوى الرسائل/ الحكايات التي تكتبها حصة للسلطان، وفي آخرها تعد برسائل أخرى في رواية طويلة. وقد وفت بالوعد في رواية سارة الجروان التالية «طروس إلى مولاي السلطان».
وأعلنت الكاتبة في تقديمها لهذه الرواية، أن اسمها الأصلي هو (حصة خلف الجروان الكعبي) وليس سارة الجروان، صاحبة الروايتين المذكورتين. وتعلن الكاتبة بشجاعة نادرة أن اقتران اسمها باسم بطلة الرواية لا يسبب لها أي إحراج، كما هو متوقع في مجتمعاتنا الذكورية. والكاتبة بالتالي تتحدى القراءة الذكورية لروايات الكاتبات، وهي القراءة التي تتلصص على الأنثى في الكاتبة، وتطابق بين الكاتبة والبطلة، سواء توحّد اسماهما، أم اختلفا، أم اختفيا، وينتفي بذلك الخيال من الرواية، ومثله القول بالتخييل الذاتي.
أنا الخرافة في الحكاية
وقريباً من صنيع سارة الجروان، تبدو رواية لولوة المنصوري «خرجنا من ضلع جبل»، حيث تأتي هذه الإيماءة إلى أن الكاتبة نفسها هي من تروي الرواية ومن تكتبها: «هناك امرأة حروف اسمها خمسة، لامان متمردتان، وواوان من الخطيئة، وحجر دائري يغلق فوهة الاسم العتيق». لكن الكاتبة/ الراوية في الرواية تكتب في مخطوطتها أنْ ليس لها أب ولا أم، وأنها تنتمي إلى الكون كله، ولا تدين بالولاء إلى جماعة أو لغة: «أنا الخرافة في الحكاية». وقد شرعت بتدوين تاريخ البلدة الذي قد يكون خرافاتها، وهي تكتب كل حكايا الناس والحيوان والنخيل، كيلا تفقد البلدة ذاكرتها. وكان هيثم يعقوب أستاذ الوهم وداهية الحقيقة، والذي يوقّع بـ«باحث في الزمن»، ينادي الكاتبة بالمرأة الخرافة، ويحرضها على أن تكتب كل شيء عن البلدة. كما يمضي اللعب في الرواية إلى أن يُدخِل أحمد عدنان في النص، ويسرق قلم الكاتبة ليكتب على جسد النص، فتقع في حيرة وشتات: من يكتب؟
***
أما التقنع باسم آخر غير اسم الكاتبة، فنمثّل له برواية ميسون صقر «ريحانة»، وفيها تحدّث راويتها الإماراتية شمسة حبيبها المصري هادف عما تروم من كتابة سيرة العبدة «ريحانة». وعلى الرغم من أن السيرة تعود إلى ستينيات القرن الماضي، فمشروع شمسة الكتابي هو تسجيل ذلك الزمن الذي تبدد، وعالم العبودية الذي تقوّض. وتنادي الروايةُ السيريةَ في مفاصل كبرى وشتّى من حياة شمسة، معززةً حضور الكاتبة كشخصية روائية تحمل اسم شمسة.
ومثل شمسة هي راويةُ رواية صالحة عبيد (I pad الحياة على طريقة زوربا)، واسمها «بادية»، والكتابة هي الحياة بالنسبة لها، كما يوحي تصدير الرواية بقول الشاعر السوري الراحل رياض الصالح الحسين: «لا يفعل شيئاً سوى الكتابة.. ربما لأن الكتابة فعل الحياة». والكاتبة «بادية» لا تفتأ تبدي وتعيد فيما تعنيه الكتابة لها، فهي تحبها كما تحب الشوكولاتة والقهوة والمشي بشعرها المنكوش، لأنها جميعاً «وسائل للهرب في طريق أحادي الاتجاه نحو الراحة». وعلى العكس من هذه (الخفة)، للكتابة عند «بادية» أيضاً شبهها بحالة النبوءة، وفيها خلق، وصناعة كيانات، وتمرد. و«بادية» تكتب كيلا تموت جرّاء حالة الصمت الكتابي. وقد حشدت فيما كتبت، سواء في القاهرة، أم بعد ما عادت إلى الإمارات، بما التهمت من كتابات الطاهر بن جلّون ومحمود درويش وحسن مدن وإبراهيم اليوسف و..بالإضافة إلى ما حشدت في عتبات الفصول.
عتاب طويل
تنفي ميثاء المهيري عن روايتها «من أي شيء خُلقت» أن تكون رواية، فتصدّرها بقولها: «هذا النص ليس رواية أو مذكرات أو أي شيء آخر.. إنه عتاب طويل..». ولكن من ستكتب الرواية وترويها، وهي التي لا تحمل اسماً، أخبرت الحبيب (متعب) الذي تخاطبه من البداية إلى النهاية، بأنها ترغب في أن تؤلف رواية يكون هو فيها البطل، وبأنها ستقيم حفلاً كبيراً لتوقيع الرواية التي «سيضج بها العالم». والكاتبة إذن في هذه الرواية ليست ميثاء المهيري، بل الشخصية المحورية التي طالما كانت الكتابة عالمها، ومارست الكتابة منذ الطفولة. وقد تحقق لهذه العاشقة حلمها، فصدرت روايتها الأولى، ولكن بعد ما قوّض متعب علاقتهما، فبكت الخيبة: «ها أنا ذا وحيدة على طاولة بمفرش أبيض وبجواري تصطف نسخ من كتابي أوقعها بالقلم الذي أهديتني إياه». وقد كتب متعب للكاتبة بعد ثلاثة أشهر من صدور الرواية: «روايتك رائعة.. أنهيتها في يوم.. كعادتك مليئة بالتفاصيل.. لازلت أنثى مفتونة بالتفاصيل».
***
بهذه الرواية التي ظلت كاتبتها، كشخصية روائية، بلا اسم، تكون قد اكتملت أمثلة حضور الشخصية الروائية ككاتبة، بعد ما رأيناها تحمل اسم الكاتبة نفسها في روايتي سارة الجروان ولولوة المنصوري، وتحمل اسماً آخر في روايتي صالحة عبيد وميثاء المهيري، وفي المدونة الروائية في الإمارات أمثلة وفيرة أيضاً.