نوف الموسى
قراءة عمق حضور فن «المالد»، في الإمارات، بمناسبة ذكرى المولد النبي الشريف، تستدعي الوعي بالحالة الوجدانية للتمازج الروحي عبر رهافة القصيدة الفصحى، في مدح النبي محمد صلى الله عليه وسلم ممثلةً «اللغة»، وبين الاتصال الشعبي الإنساني، كونه حاجة ملحة لاكتمال فعل إدراك المجتمعات للقيم الخاصة فيها باعتباره «تجربة»، لذا فإن مناقشة الجذور التاريخية للتصوف في الإمارات، والتي يعتبر فيها «المالد»، أحد أبرز أشكالها التعبيرية، تُعد ضرورة بحثية.
بحسب الباحث راشد أحمد الجميري، وعبر كتابه «التصوف في الخليج»، أن كل ما وثق يمثل دراسات أولية، لضبابية وندرة المصادر التاريخية، إلا أنها أرضية أساسية تحتمل البناء والتفنيد، وذلك انطلاقاً من البعد التاريخي الذي اكتشفه الكاتب والشاعر الإماراتي أحمد راشد ثاني، أثناء زيارة اليمن في عام 1995، من خلال مخطوطة «المواهب والمنن في مناقب الحسن» تعود للرحالة اليمني علوي بن أحمد بن حسن الحداد، مشيرة إلى أن الحضور الصوفي في الإمارات يعود إلى ما يقارب الـ 300 سنة، وتحديداً في منطقة الصير بإمارة رأس الخيمة، في القرن السابع عشر الميلادي، ووثقها في ثاني كتابه «رحلة إلى الصير».
مروراً بدراسة «تراث المالد»، ورؤيته كتقليد موسيقي يراه الباحث والشاعر خالد البدور بأنه ينتمي إلى مدرسة «السماع الصوفي» الموسيقية، ويحسب للبدور توثيقه لأهم ممارسي «المالد» بشقه الأول المرتبط بالممارسة الصوفية، والثاني في كونه فناً شعبياً، من خلال تسجيلات تلفزيونية انطلقت منذ عام 1988، تبعها فيلم «المريد» الوثائقي للمخرجة نجوم الغانم، وذلك بإجراء لقاء حيّ مع عبدالرحيم بن عبدالله بن أحمد الكوخردي الملقب بـ «المريد»، من رواد وأعلام فن «المالد» في الإمارات، من سرد تفاصيل نشأة الطريقة القادرية الصوفية في إمارة دبي، من خلال حضور السيد محمد عمر الأفغاني في الثلث الأخير من القرن 19، وما عمد إليه والده عبدالله المريد من إضفاء الطريقة الرفاعية في حركة التصوف.
جميعها ألقت بظلالها على شكل وماهية تفاعل الاحتفال بفن المالد في مجتمع الإمارات، يرويها الباحث ثاني المهيري، وبالأخص في مجالس الحكام والأعيان من مثل طقوس احتفال مجلس أحمد بن دلموك - مؤسس المدرسة الأحمدية - في منطقة ديرة؛ أي قبل 100 عام.
وأرجع الباحث ثاني المهيري إلى أن أول أمير أظهر الاحتفال بالمولد النبوي بصورة شعبية رسمية هو الملك المظفر صاحب إربل، حيث عرف المهيري فن المالد بأنه: «اجتماع طائفة من الناس على تلاوة القرآن، وقراءة سيرة النبي صلى الله عليه وسلم، وإنشاد المدائح النبوية المحركة للقلوب إلى فعل الخيرات والعمل للآخرة، وقد يكون بحركة وتمايل واستخدام للدفوف. ويفعل هذا الاجتماع في غير مناسبة ولادة النبي صلى الله عليه وسلم، ويسمى مولداً أيضاً».
ولا يمكن لـ «الاتحاد الأسبوعي» إغفال نقطة جوهرية، في أن فن «المالد»، لا يزال يقدم في عدة مجالس لأهالي الإمارات، إلى اليوم، وهناك الكثير من الناس، لا يستطيعون أحياناً الوصول إليه ومشاهدته، أو إعادة اكتشافه، لذا فإن مناقشة الفنون بإثرائها الحس المعاصر، من بينها التجربة الحسية عبر العمل الفني «المالد» للفنان والمصور الفوتوغرافي عمار العطار، ضمن منحة جائزة «البردة»، الذي يمثل بعداً مهماً لزيادة فضاءات تتناول الفن، واستمراريته، فالأخير مرهون، كما أوضح الباحث خالد البدور، باستمرارية الفرق الوطنية الفلكلورية التي تنشئها الدول لتقديم الفنون الشعبية، التي لا تعد حيّه بالشكل الفعلي والظاهري بفعل تغير شكل وأسلوب واحتياجات الحياة اليومية.
قصيدة «البردة»
يقام الاحتفال بـ «المالد» بمناسبة مولد النبي صلى الله عليه وسلم بقراءة بعض النصوص النثرية والشعرية ذات المستوى الرفيع، التي كتبت لسرد قصة ولادة النبي صلى الله عليه وسلم ومجمل سيرته، أو في مدحه وذكر شمائله الشريفة، ومن أشهر النصوص النثرية التي نالت القبول عند العلماء وعامة الناس، مولد «عقد الجوهر في مولد النبي الأزهر»، الشهير بـ «مولد البرزنجي»، لمفتي الشافعية بالمدينة المنورة زين العابدين جعفر بن حسن البرزنجي «المتوفى سنة 1177 هـ / 1764»، وهو من الموالد التي تقرأ في مختلف البلاد حول العالم.
أما النصوص الشعرية فأشهرها قصيدة «البردة» للإمام البوصيري، التي تعد علامة لافتة في تاريخ الأدب العربي، وارتبطت بوجدان المسلمين في مشارق الأرض ومغاربها منذ أنشدت، ولأهل الإمارات عناية بهذه القصيدة، حيث كان ينشدها الكبار على ظهور الإبل، ويتغنى بأبياتها المنشدون والمغنون.
مناسبات دينية واجتماعية
يقام المالد عادة في المناسبات الدينية، كمناسبة المولد النبوي الشريف في الثاني عشر من شهر ربيع الأول، كما يقام في بعض المجالس بشكل شهري «وسط الشهر الهجري» أو أسبوعي «ليلة الاثنين والخميس والجمعة»، كما يقام المالد في المناسبات الاجتماعية المختلفة كالأعراس والانتقال لمنزل جديد وغيرها.
التصوف في الخليج
بالرجوع إلى كتاب «التصوف في الخليج»، يسرد الباحث راشد أحمد الجميري، أن فن المالد يتكون من «صف من الجالسين يحملون بأيديهم دفوفاً ضخمة، يلوحون بها في الهواء ويضربون عليها، ويبدأ القوم بالنشيد، الذي هو عبارة عن كتاب «البرزنجي»، الذي يسرد سيرة النبي محمد صلى الله عليه وسلم، وفي مواجهة هذا الصف، يجلس عدد من المنشدين، وقد تلاصقت أكتافهم يتمايلون يميناً وشمالاً»، وأضاف تفاصيل حول المناسبات التي يقام فيها المالد، فهي متعددة من مثل الاحتفال بالمولد النبوي، الأعراس، الختان للأطفال، الوفاء بالنذور، الانتقال إلى بيت جديد.
من الأصوات المهمة في دولة الإمارات، التي قدمت فن المالد، إلى جانب المريد، هو الشيخ أحمد بن حافظ، ويوضح الباحث خالد البدور أن والده عبدالرحمن بن حافظ، أوصى أن يتعلم ابنه على يد عبدالرحيم المريد، ولفت البدور أن أحمد بن حافظ مارس فن المالد كفن شعبي، وليس ممارساً لصوفية كما هو الحال مع عبدالرحيم المريد، من قدم المالد في البعدين، وأصر على البعد الشعبي، الذي ظهر بتأسيسه لـ فرقة المريد للمالد، تحت مظلة جمعية الفنون الشعبية التي أسسها مع خادم المعصم وربيّع البدور، تبعه أيضاً تأسيس «فرقة ابن حافظ» التابعة لـ أحمد بن عبدالرحمن بن حافظ.
أثناء ذكر الباحث ثاني المهيري لأوائل المصنفات التي ألفت في المولد النبوي الشريف، والتي قد يكون أقدمها هو المولد النبوي المسمى بـ «تنقل الأنوار»، للعلامة أبي زكريا يحيى بن مالك ابن عائذ الأندلسي المتوفى سنة 376 هـ، إلى جانب ما نظمه عبدالله بن محمد صالح الخزرجي «1878 - 1943»، شواهد مولد الإمام البرزنجي وسماه، الشاهد المنجي للمولد البرزنجي، فإنه بوصول المهيري بسرد مؤلفات علماء الإمارات وأشعارهم، من بينهم قاضي الظفرة الشيخ الشاعر علي بن سالم بو ملحا المرر «1825 - 1900»، بدأ يرسم المهيري الظواهر الاحتفالية في فريج «الرميثات»، وفريج «أهل بو مهير» في أبوظبي، سبقها حديثه عن قيام الشيخ شخبوط بن سلطان آل نهيان، في ليلة 12 ربيع الأول، بإيقاف كل الموالد، ودعوة المنشدين وكل أهالي أبوظبي إلى قصر الحصن ليحتفل الجميع معاً.
ووثق المهيري أبرز من أقاموا الموالد من الأعيان في أبوظبي وهم: آل حامد، وخليفة بن أحمد السويدي، وعمير بن يوسف، والشيخ جابر بن راشد الهاملي «شيخ الهوامل»، والشاعر عبدالله بن سلطان بن سليم مواليد 1880، ومحمد بن يعروف، ودرويش بن كرم، وخميس بن سعيد بن عتيج الكبيسي، وأحمد بن خلف العتيبة.
وفي إمارة دبي من أشهر من أقاموا فن المالد في مجالسهم، الشيخ سعيد بن مكتوم آل مكتوم، والشيخ مجرن بن سلطان، وفي إمارة أم القيوين، كانوا من أهل منطقة اللزيمة، ومنهم خميس بالمر المهيري وابنه الشاعر عبدالله بن خميس وكذلك الشاعر المعروف محمد بن علي الكوس، وعرف الاحتفال بالمولد في منطقة المعيريض برأس الخيمة، وكان ممن يقيمه الشيخ سعيد بن حارب المهيري، كما كان يقيمه عبدالرحمن بن عيسى بن عبداللطيف السركال، والشيخ محمد بن أبوبكر الحمادي.
وذكر الباحث ثاني المهيري أنه في المنطقة الشرقية وتحديداً منطقة كلباء، أحيا وقتها الشيخ عبدالله نصيب، والمطاوعة والإخوة حسين ويوسف إسماعيل بوصيم من آل علي فن المالد. ولفت الباحث ثاني المهيري حول إقامة المولد من قبل النساء، ومن أقدم اللاتي اشتهرن بقراءة المولد في إمارة أبوظبي زليخة بنت الشيخ أبوذينة، موضحاً الباحث ثاني المهيري أن ما بين الكتب التي اعتاد أهل الإمارات قراءته في فن المالد، كسائر أهل الخليج العربي وفارس والحجاز والشام والمغرب العربي، هي: مولد الإمام المحدث زين العابدين جعفر بن حسن البرزنجي المتوفى سنة 1177 هـ، ومولد شرف الأنام وغيرها.
مسألة بحثية
يُعد الشكل المحلي لكيفية أداء فن المالد، مسألة بحثية مفتوحة، صرح حولها الباحث جمال بن حويرب، بأنه هناك قرب واتصال مباشر بين فن المالد وفن «السامري» وهو فن شعبي فلكلوري، يوجد في نجد وبعض الدول الخليجية، فيه ما يقارب الـ 30 لحناً، منها «اللعبونيات» نسبة إلى الشاعر محمد بن لعبون، من ساهم في تطويره، وجّل قصائد السامري غزلية، بينما المالد يحتفي بقصائد في مدح النبي محمد صلى الله عليه وسلم، مبيناً أن حضور شكل فن المالد، سبق حضور محمد عمر الأفغاني إلى الإمارات.
وأرجع ابن حويرب أصل كلمة «المالد» إلى أنها تعود إلى كلمة «المولد»، حيث يتم تبديل الواو ألفاً في اللهجة المحلية، بالمقابل اتفق الباحث سلطان العميمي والباحث ثاني المهيري، حول التقاء شكل فن «المردادي» مثلاً، بأداة فن «الطارج» عند البدو، و«الحدوة» عند أهل البحر، وعرف المهيري «المردادي» بأنه: «فن يقام بعد ضرب الدفوف عادة، ويجلس فيه الرجال في صفين ويمسكون العصي، ويبدأ صف النظم بإنشاد أبيات من إحدى القصائد العربية الشهيرة، وفق إيقاع يختلف عن إيقاع المالد وبدون ضرب الدفوف».
وصف الباحث خالد البدور هذا الالتقاء في الشكل الفني لفن المالد مع الفنون الشعبية الأخرى، بقوله إن في كل دولة، تجد الناس يستعيرون أشكال الأداء، من مختلف الفنون، ففي «المالد»، نرى أن جزءاً من حركة اليد، والميل بالظهر، واستخدام المد في الإلقاء، حاضره في فن العيالة، إضافة إلى أن المشهدية الحركية مرتبطة بحركة المسلم نفسه أثناء تأديته للصلاة، فهناك حركة للمؤدي تشبه السجود، عبر النزول الكامل للأرض والعودة مره أخرى.
طريقتان للاحتفال
يؤدى «المالد» في الإمارات بطريقتين، الأولى قراءة النصوص النثرية، كمولد «البرزنجي» أو غيره من الموالد التي تسرد قصة النبي صلى الله عليه وسلم، وكثيراً ما يقتصر الناس في المناسبات الصغيرة بقراءة قصة المولد من كتاب «البرزنجي»، والثانية تكون بالإنشاد الجماعي للقصائد، وكثيراً ما تكون من شعر سلطان العاشقين عمر بن الفارض، أو الشيخ عبدالرحيم البرعي، أو الإمام عبدالله الحداد، وقد تستخدم فيه «السماعات» جمع «سِماع» وهو الدف، ويكون إنشاده بجلوس المنشدين في صفين متقابلين.
التقاء فكري
في سياق المحور البحثي التوثيقي عن فن المالد في الإمارات، بين انطلاقة الباحث والشاعر خالد البدور في الثمانينيات، وصولاً إلى الفنان والمصور الفوتوغرافي عمار العطار بإنتاج عمله المالد في عام 2019، من المهم الاطلاع على الكيفية البحثية للباحثين على اختلاف الأجيال وطرق التفكير الاجتماعية ومساحات التأويل الفنية من جهة، والالتقاء الفكري والثقافي والوجداني، بالنسبة للباحث خالد البدور مواليد «1961»، فإن المعرفة الأولى بفن المالد في طفولته، من خلال والده، من حضر الموالد، بالمقابل عمار العطار مواليد «1981» تعرف على فن المالد لأول مرة من خال والده، عندما كان يحضر الموالد في منطقة الراشدية بدبي، اللافت أن كلا الباحثين عن الفن اشتغلا على تفاصيل الحياة اليومية في الإمارات يقول عمار: «دائماً كنت أريد أن يقف المتلقي أمام الصورة التوثيقية، وينتبه إلى ما هو اعتيادي ويومي، ويعتبره حالة مدهشة ويحتمل أوجهاً جمالية عديدة».
في محور إنجاز لعمله الفني «المالد»، لا نعلم إذا التقى بالباحث خالد البدور، ولكنه سرد تفاصيل لقائه بالباحث ثاني المهيري، عندما طلب منه وقتها أن يحضر لمشاهدة فن المالد، في أحد مجالس دبي وأبوظبي، وقبل ذلك يخبرنا عمار أنه كان يسأل كل من حوله عن «المالد» حتى استدل من زميله له في العمل، عن مجلس في دبي، يقيمونه أثناء احتفالهم بالمولد النبوي قائلاً: «أردت أن أفهم الشعور في البداية، قبل التفكير في الشكل التقني، الذي بإمكانه أن يعبر عن الحالة الحسية للمكان، بالأحرى ذلك التفصيل الروحي الواضح بخفه على أوجه المؤديين، كان يهمني جداً أن أكون المراقب، وأسمح لكل تلك التجربة أن تتسرب إلى اللا واعي لدي.