هيلين سائحة ألمانية التقيتها ذات مرة في لقاء عابر في أحد مقاهي مدينة ميونيخ المنبثقة من تاريخ حضاري، تجاذبنا أطراف الحديث حول معالم الطبيعة المتميزة، فهذه هي ثقافة السياحة في تقاربها الجميل، قالت هيلين، إنها زارت أبوظبي من قبل، وتتوق لزيارتها مرة أخرى، وبالذات مدينة العين، وجبل حفيت، ذلك الرمز التاريخي للمدينة، وأخرجت من حقيبتها كتاباً باللغة الألمانية، يتحدث الكتاب في بعض صفحاته عن الجبل نفسه، وصخوره الموسومة بالتاريخ، وأوردت صورة للجبل شامخاً يشارف على المدينة، وكانت تود من زيارتها أن تستلهم شيئاً مما قرأت حول طبيعة المكان وما يحضرها في ثقافتها وسفرها المتجدد.
هيلين كانت في السبعينيات من العمر، حين قابلتها قبل سنوات مضت، إلا أنها كانت تبدو في أناقة الكبار وطفولة الصغار، فهي مرحة وكان بجانبها يجلس زوجها المسن، يبدو تسعيني العمر، وهو الرجل الشاخص في الصمت، صاحب ابتسامة، ونظرة بعيدة، يحلق بذاكرته، كان طياراً حربياً إبان الحرب العالمية الثانية.
وبعد أيام قليلة من ذلك اللقاء، وصلت هيلين إلى أبوظبي في زيارة سياحية، وقمنا بزيارة جبل حفيت، لم أصدق لهفتها وفرحتها وولهها بمدينة العين، بدت في غبطة وسرور، وهي تقف على قمة الجبل، تلملم بعناية وتتفحص صخوره وتستدل على ما قرأت، مرات عدة تفتح كتابها، وكأنها في رحلة زمنية معرفية ما بين الطبيعة والسطور، تستند إلى ما قرأت، وتكتفي وحدها دون ملل ولا كلل، وفي اللحظات ذاتها قد يثير فضولَها شيء ما، فتحدثني شارحة عما وجدت من معلومات ومعارف، وبعد انتهائها أخذت تستمتع ببانوراما المدينة الخضراء، كما لو نبتت بيوتها نبتاً بين صخور الجبال وغابات من الشجيرات والنخيل تطوقها.
ماذا قال جبل حفيت للتاريخ منذ مئات السنوات؟ وما حكاية صخوره المذهلة لتلهج بها كتب بلغات مختلفة؟ عدت أبحث عما يتميز الجبل بصخوره الجيرية، والتي تشكلت عبر حقب من السنين بفعل عوامل التعرية والترسبات البحرية القديمة.
بالأمس القريب، تذكرت رحلة هيلين إلى قمة جبل حفيت، وتذكرت قمم الجبال التي زرتها من قبل، تلك القمم الشاهقة البارزة الراسيات كقمة أعلى جبل بألمانيا بمدينة غارمش، لا أنسى تلك الثلوج المشبعة بالبياض الذي يفوق الوصف كثافة، تكاد المدينة الصغيرة تختفي تماماً جراء الذوبان بمشارف الصيف، كأنها تغتسل بماء متدفق حتى تبدو ناصعة البياض، فاتنة تلهم الزائر.
لكل قمة جبل طبيعة منفردة بذاتها تستهوي الزائر، قمم تعشش بذاكرة المسافر ولها وقع تاريخ، وتحلق بها عالياً، لتكتسي منها بما يستدل على حياة المعرفة والسياحة، قمم من كيانات مستقلة في عالمها الساكن والمنفرد.