بالرغم أن خدمة سائقي الدراجات والسيارات الصغيرة لتوصيل الطلبات بدأت في الهند قبل قرن تقريباً، أيام «السفر طاس» وتوزيع الحليب والصحف، مثل بريطانيا، إلا أن العالم ما عرفهم بشكل حقيقي ومكثف وضروري إلا في مطلع الألفية الجديدة، وبرز دورهم الفعّال أثناء جائحة كورونا، واليوم غدوا لا غنى عنهم وعن خدماتهم التي لا تنقطع، ونحن مثل جزء من هذا العالم المتطور، الباحث عن اغتنام وقته، وعدم إهداره في تفاصيل صغيرة، وما تتطلبه رفاهية المجتمعات الاستهلاكية من خدمات عالية، وتعقد سبل الحياة فيها.
في الإمارات هناك خدمات أيضاً تقدم لسائقي الطلبات والخدمات؛ من توفير المكان المبرد والمسقوف المخصص لهم صيفاً وشتاء، لاستراحتهم وتناول طعامهم، وتقديم المياه والمستلزمات لهم، لكنهم بدورهم ضجيج فعلي في الشوارع، ويسببون أحياناً ربكة للسائقين، خاصة وأنهم يتسللون بسرعة دراجاتهم، وتجاوزهم عن يمنة ويسرة، وبعضهم يغالون في تحقيق أكبر مسافة تقطع وتوصيلات تسلم، لأنها تزيد أجرهم، ولو كان عالياً يحسدهم عليه بقية السائقين، لكنه يهون في سبيل ما يعانون، يكفيهم ضغوطات الشوارع والسيارات وحرارة الجو، وملابسهم الغليظة الضرورية لسلامتهم، ومتطلبات زبائن مختلفي الأمزجة والتربية والأخلاق، وهم كأناس لهم أيضاً أمزجتهم وأمراضهم ومتاعبهم الحياتية والضغوطات الأسرية.
لكن لو تأملنا يوماً واحداً متخيلاً لسائق التوصيل، وكيف يمضي نهاره الطويل وهو يمارس الرقص اليومي بين السيارات المندفعة، والتي تمر عليه والتي يتجاوزها والتي أصحابها شرسون طَبْعاً، معتمراً تلك الخوذة، وملابس بعضها لا يتناسب وحرارة الشمس والجو الرطب، وبعض من هؤلاء السائقين لا يراقبون أكلهم ولا الأساسيات التي تحتاجها أجسامهم، ولا التي تساعدهم على الصمود والمقاومة لطبيعة عملهم الشاق، فيبدو خوفنا عليه ومنه، لأنه إن سقط فسيكون ضحية نفسه وضحيتنا، ولا فرق هنا، فالنفس البشرية واحدة، لكن لا أحد يتحمل عذاب الضمير.
سائقو التوصيل السريع بألوانهم المختلفة، وما تخط الشركات على ملابسهم ودراجاتهم وسياراتهم، فكروا لو سقط من أحدهم الطعام في الشارع أو احتك بسيارة أو ضل عنواناً وتاه في التوصيل، وكان المنتظر واحد لا يخاف الله، ولا هو مصل على النبي، وتلقاه بالسباب والشتائم بدلاً من زجاجة ماء بارد أو إكرامية تفرح يومه! ماذا لو فاجأته ضربة شمس أو هبط السكر عنده أو ارتفع ضغطه أو تعطلت دراجته في الشارع، والوقت في الثالثة وفي الشهر السابع أو الثامن؟! هؤلاء يتعبون من أجلنا، ولو أنه شغلهم وحاجتهم إلا أن الإنسانية يجب أن لا تغيب عن مثل تلك الحالات.
لكن.. هل يأتي وقت وتختفي كل تلك الدارجات والسيارات وسائقو تسليم الطلبات من حياتنا؟ مثلما حدث لأمور كثيرة كانت يوماً زاهرة، واختفت تدريجياً، وبعضها انقرض فجأة، مثل موزعي الصحف والمجلات وبائعيها في الشوارع، مثل سيارة الآيسكريم والكيك التي تبيع في الحارات، حتى سيارة أسطوانات الغاز التي تقدح شرراً في الشارع وبين البيوت مسيرها إلى الانقراض، وحتى يأتي دور سائقي التوصيلات والطلبيات.. رفقاً بالمساكين!