السفر بعيداً كان، أم كان عميقاً، السفر في الخارج إلى المدن أو السفر في الداخل حيث النفس، كلها رحلات ليست هينة، بل رحلات نتكبد فيها من العناء والتعب، ولكنه تعب لذيذ، فمهما تعبت الأقدام على رمال المسافات، كانت بهجة الروح كبيرة، والسعادة حاضرة، هو سفر لاكتشاف الذات من خلال المدن وتضاريسها وتاريخها وروائح الأشياء القديمة فيها، سفر يدلك على دروب السعادة ولو في تلمس الأشياء الصغيرة والبسيطة في أمكنة الترحال.
لا يمكنني أن أرى رساماً على قارعة الطريق وهو يبيع حبره وألوانه، وتعب أيامه، ولا أتوقف قليلاً عنده، فقط لأقول له: صباح الخير.. مساء الخير أيها السيد!، ولن أسأله كيف هي الحياة معه؟ لأنه مثلي يبحث عن إجابة ذلك السؤال.
لا يمكن أن يدعني أمرّ عازف «السكسفون» ذاك في ليل باريس الماطر دون أن ابتسم له، وأنزع قبعتي، وأجعل شيئاً من بكاء «السكسفون» الصامت يتسلل إلى قفصي الصدري، هناك.. شمالاً جهة القلب، كيف لي أن أودعه، ولا أضع شيئاً من النقود داخل قبعته الصوفية، أقلها أنها تكفي لثمن شيء يشتهيه تلك الليلة، وليتني كنت أقدر أن أتشاركه معه في آخر ذلك الليل الماطر بالفرح والتذكر والسعادة التي تجلبها باريس وحدها.. ووحدها فقط!
السفر ليس قطع تذكرة سفر، وقراءة كتيبات ما قبل السفر، وعمل جداول ومواعيد، اليوم للمتحف الوطني، وغداً العشاء في مطعم قديم في المدينة، ولا بد وأن أستمتع بجولات الحافلة المكشوفة طوال اليوم التالي، هذا السفر يليق بالسائح العَجِل، عاشق التصوير «السلفي»، لا بعاشق الدهشة وفرح المسافات، الباحث عن الحكايات التي تروى، القادر على قراءة الأمكنة، وكشف أسرارها الدفينة، المتأمل في الوجوه الإنسانية العابرة، والذي يعني له الجلوس في مقهى «هافيلكا» في مدينة فيينا أكثر من فنجان قهوة! وأن النوافذ والأبواب الزرقاء المسروقة من لون البحر في مدن البحر الأبيض المتوسط التي تزين الدور البيضاء، والتي فيها النافذة أكثر من نافذة تجلب الريح، وتدخل أشعة الشمس، والباب فيها يكون أجمل حين يُفتح للصديق أكثر مما يُغلق في وجه الغريب!
هناك لذة ليس أعذب منها تجدها في شوارع غرناطة وقرطبة، وأكلة «الباييه» في إشبيليا أطيب، خبز «الباكيت» الفرنسي له طعم آخر عند تلك البائعة الفرنسية العجوز في «إكس بروفانس» ومخبزها الذي يقبض على خاصرة الشارع، والتي ما تزال تهرم فيه يوماً بعد يوم، البقلاوة مع فنجان قهوة تركية معطرة بماء الزهر في مدينة «مولانا جلال الدين الرومي» «قونية»، تستدعي معها قواعد العشق الإلهي الأربعين، لا تشبهها قهوة، لمدينة بيروت فلسفة أخرى في الأكل، وكيف العين تأكل قبل أن تمد يدك إلى اللقمة، للقاهرة ضجيجها وفوضاها وازدحامها، والتي لن تخرج منها إلا ضاحكاً، وقابضاً على ألف حكاية وحكاية، مراكش بذاك الخيلاء الملكي في كل شيء، موائد الشواء، والسفرة المنوعة من سبع طبقات من المفارش، كل مفرش له وجباته المختلفة، نقوش الأبواب والأسقف الخشبية، الزليج الملون الذي ينام على الجدران، وأصوات من الموسيقى الأندلسية الغابرة في الزمن.. وغداً نكمل