ما القصيدة؟ هل هي مجرد رصف كلمات منمّقة وإطلاقها في ميلودي لحني وإيقاعي، أم هي شيء أكبر بكثير من هذا التعريف الشكلي؟ لا أظن أن أحداً من قبل تمكّن من تعريف القصيدة بحق، كونها في الأصل سؤالاً فلسفياً عميقاً يتجذر في جوهر الذات الإنسانية، ويكشف عن قدرتها على التغيّر في تعاملها مع اللغة. هذا يقول إنها صوت القلب المشحون بالمشاعر غير المدركة، وذاك يرى أن صوت القصيدة هو لغة الروح وليس اللسان. وربما قال ثالث إنها خطاب الإنسان الذي يحاول أن يفهم نفسه وعلاقته بالعالم. وهكذا تستمر محاولات تعريفها إلى ما لا نهاية.
ما الذي يحدث حقاً في لحظة التجلي الشعري، في تلك الدقائق التي يتوقف فيها الزمن ويتخذ بُعداً ثالثاً غير مقيد بمنظومة القياس العقلية. وماذا يحدث للمكان عندما تُزاحُ في النص الحواجز الشكلية إلى درجة أن الشاعر يمكن أن يضع الكرة الأرضية كلها في راحة يده ويقول: هذه تفاحتي الخضراء. هل نصبح أمام حقيقة أخرى؟ هل من واجب القصيدة أن تقدم الحقائق أو تتمسك بالحكمة العقلية التي نجدها لدى الفلاسفة؟ أم أن وظيفة الشعر هي في مكان آخر، هي هناك حيث يتحرر الخيال من الأسس الثابتة للمعرفة، ويقدم تصورات للوجود في بعده غير المرئي، ملامساً الحس الإنساني، وناثراً عليه رزمة من الصور والرموز والأفكار التي يحتضنها اللاوعي ويموجُ بها في الأحلام والرؤى.
هل القصيدة في عمقها هي الوصول إلى الحرية بمعناها المطلق؟ عندما تصف شاعرة نفسها بأنها تقف على حافة الوجود ثم تفرد جناحيها وتحلّق مبتعدة عن آلامها. هل هي تتحرر هنا من ضيق المكان وقسوة الزمن؟ أم أنها تفتح بُعداً وتقود قارئها للدخول فيه وعيش هذه التجربة بكامل دهشتها؟
يتمسك كثيرون بشكل القصيدة ويرونه ضرورياً، لكن الشعر العظيم لا يقف عند هذه الفكرة أبداً. كل القصائد العظيمة حملت في بطنها قوة المعنى والصور والمخيال وقوة الفكرة والبناء الروحي للنص والقدرة على التناول والنظر إلى العالم من زاوية جديدة. هذا ما يثير حقاً في الشعر. وإذا كانت القصيدة فعل هدمٍ من أجل البناء، كما يقول نقاد البنيوية الجديدة، فإن الهدم لا ينبغي فقط أن يكون في الشكل، وإنما في الرؤية والتجاوز والتبصّر في مآلات وجودنا بعين معاصرة.