اختل ميزان اجتماع عائلتنا الأسبوعي، فقد سافرت الأخت سمية بالخير لأداء العمرة، وما إن بلغت الميقات حتى انهالت علي الاتصالات بما أنني أتبعها في الترتيب، وجاء وابل من الأسئلة: «شو الغداء؟ سمك ولا لحم.. تعبنا من الدياي؟ وين بنتغدى؟ منو بيي؟ شو نييب ويانا؟»، حسمت الأمر فقلت في عبارة واحدة: «الغداء عندي ولا حد يحاتي شيء!». يوم نشيت الصبح نظفنا البيت والرخام بالديتول ولبقنا الضوء ودخّنا المكان وشغلنا الكنديشن وفرشنا زولية على الأرض مدينا عليها السماط. عندما أصبحت الساعة الثانية جاء الأحبة والمحبون وكثرت القبل والأحضان والتحيات، فقال أحد الأحفاد: «أنا يوعان.. متى بناكل؟»، قلنا له: «نتريا خالوه عموه سايرة تسوي رياضة والحين يايه في الدرب». صبر الصغير معنا فمن السنع انتظار الجميع لوصول أحد أفراد العائلة، تعلم محمد منها قيمة الصبر والتقدير للآخر.
جاء الغداء نص ذبيحة فوقه (اللي الحين يسمونه مكبوس)، وبرياني دياي وصالونه كنعد، وعيش سوكة (شيلاني أو أبيض كما يسميه البعض) وسلطات وغيره. غرفت لأصحاب السكري أولاً ثم للأطفال، وبينما كانت الصحون تمتلئ بالأرز واللحم وغيره، كان إبراهيم الصغير ينتقي من الأرز الأبيض الذي في صحنه البصل والهال والمنكهات، سألته: «شو تسوي؟» قال:«أنا بس آكل عيش أبيض أي شيء أو لون ثاني في العيش ما يخليه أبيض»، ابتسمت لهذا المنطق العميق، وقلت: «ولكن السر يكمن في النكهة وليس في الشكل؟»، ما بغيت أخرب عليه غداه بمحاضرة مملة لأنه الوحيد الذي أصر على أكل العيش الأبيض ومرقة السمك، وهذا شيء يفرحني كثيراً فالبحر مثل هذا الصغير صريح لا يخفي هدوءه أو غضبه، هو مصدر رزقٍ وإلهام لا ينتهي.
بعد الغداء تناوبنا على الحلويات وقطعنا الكيك وأكلنا الخبيصة، واختراعات البنات المتمثلة في بسكوت مشرب بالحليب المحلى، وشربنا القهوة وضحكنا كثيراً وعميقاً وطويلاً، وعمّت البهجة المكان، الذي هو قلبي وليس مقر سكني. أجمل لحظات العمر تلك التي نقضيها معهم نتعلم منهم وينهلون من معارفنا. هذا الجو العائلي الدافئ مليء بالمحبة والحميمية يبرز فيه دور اللقاءات العائلية في تقوية الروابط والتواصل بين أفراد الأسرة، وكم كانت سعادتي غامرة عند التحضير للغداء العائلي، وتجهيز المكان لاستقبال الأحبة والاهتمام بهم والحرص على إسعادهم، فوجدت في ذلك طاقة إيجابية قوية جاذبة، وامتداداً لروابط الماضي والحاضر، وهذان العنصران يخلقان إحساساً أصيلاً بالانتماء والاستمرارية ونشر التسامح والاحتواء.
للعارفين أقول: اتحدوا في كل شيء جميل يربطكم بالأهل، لأن العائلة ليست مجرد إطار اجتماعي، بل هي مكنز الذكريات والمواقف الصعبة ومكان في الروح والقلب والوجدان، تعزز هذه اللقاءات الحب والمعرفة والشعور بالأمان والانتماء. كونوا معاً لأن من جعلهم منكم جعلكم ممّن سبقوكم، إنها قدرة إلهية خالصة ورحمة من رب العالمين.