عندما تمر الأيام دون اقتناص الدهشة اللذيذة التي اعتدت على صيدها بحروفي المنتقاة، يصيبني الحزن، ويراودني الخوف من أن غالياً سيودعني، وأتساءل: هل أفقد الدهشة أم أفقد قدرتي في التعبير عنها؟ وبصراحة باتت محاولاتي ضعيفة في اكتشاف الجديد والمدهش إلا بسفر بعيد أو أحداث فارقة، وكأن علاقتي مع الحياة قد بدأت تفقد عذريتها، يتراجع رغماً عني استعدادي للتجاوب مع الأشياء، وكأني جربت كل المذاقات وكل الروائح وكل الألوان، فأصبحت أبحث عنها في بلد جديد وطعام غريب وأناس مختلفين، أبحث عنها فيما يكتبه الآخرون عن لون أو طعم أو صوت لم أعهده، لتبقى القراءة «غالباً» الملجأ الباقي لإثارة لذتي المتخيلة من دهشة الآخرين.
استرجعت بحثي المستمر عن «الدهشة» عندما قبلت من صديق جميل دعوة لزيارة مدينة «الإسكندرية»، ورغم زيارتي لهذه المدينة ثلاث مرات قبل ذلك في مرات متباعدة من عمري، فقد زرتها طفلة مع أقربائي، وزرتها طالبة مع رفيقات السكن أثناء دراستي للماجستير في جمهورية مصر العربية، وزرتها ناضجة أثناء عملي الصحفي في دعوة من وزارة السياحية المصرية. غير أني لم أذكر مرة أني غادرتها بهذا الحزن كما حدث في هذه الزيارة، وكأني سأفقد غيمة ظلّلت علي بعد أيام وسنوات حارقة. وددت لو أبقى في الشارع حتى آخر لحظة من تحرك القطار، تمنيت لو أني لم أتوقف عن المشي والتأمل وملاحقة الوجوه والتحليق في السماء.
تأتينا الدعوات فنقول: «لا».. لقد زرتها سابقاً، أعرف هذا المكان.. جربت هذا الشي، نقول ذلك بجلف وكأن الأشياء ثابتة أو كأننا ثابتون كالجماد، والحقيقة الأكيدة أننا كائنات متغيرة بشدة، بين لحظة نكون فيها على أمر نصبح مختلفين حد النقيض في لحظة أخرى. والحقيقة أن هذا يحدث بين لحظات متتابعة، فكيف هو الحال بين لحظات باعدت بينها سنوات وعقود؟!
إننا لا نفقد الدهشة لأننا جربنا كل شيء، إنما نفقدها لأننا نتوقف عن التجربة، حتى لو كانت تجربة نفس الأشياء، لأنها لن تكون نفسها أبداً.. وأننا أيضاً لن نكون أنفسنا كما نعتقد.