كلما ذهبت إلى سوق السمك تذكرت والدتي (رحمها الله) حين كنت أذهب معها إلى سوق السمك القديم، وحين كانت تراقب العامل الذي يقطع الأسماك بعد شرائها وهو يهوي بالسكين على أعناقها، تهز رأسها وتبتسم ساخرة من طريقة التقطيع، وتقول: «أول يا بنتي انقطّع السمك بيدنا ونزيل قشوره وجلده ونقطعه حسب الطبخة». قلت: لكن هذا أريح لكم يا أمي. أما سمك الهامور (اللقز) فإن خياشيمه تظل تتنفس حتى بعد فصل رأسه عن جسده. كما يظل الجسد يرتعش لفترة من الزمن، ثم يهمد ويموت.
اقتربنا من أحد الباعة على الرصيف، حيث السمك موزع في السلال. ثلاث سمكات من صنف الشعري في إحدى السلال تتخبط باحثة عن الخلاص. إحداها تندس بين السمك في حركة غوص، في اعتقادها أنها البحر.
ذاكرة السمك لا تحفظ غير البحر، وإلا لما نسيت التقطيع وحرقة النار، وأسر الشباك. وفي بحثها المضني عن الحرية وددت أن أشتري هذه السمكات الحية وأطلقها في البحر، لكن أمي قالت لي: سيعتقدون أنك مجنونة.
وفي شرودي سمعت البائع يردد: (إشرين درهم ماما بس). كنت في مداولة مع النفس وهو يغريني بالشراء: (شوف ماما شوف كلّو جديد.. الهين يجي). سمعت لغطاً على الرصيف. سفينة أخرى وسمك حي جديد. رأيت بضع سمكات تتقافز وترتطم بالإسمنت ثم تعاود القفز دون جدوى. قفزت سمكة كبيرة فحاول البائع القبض عليها، لكنها انزلقت من قبضته وسقطت في البحر. وعلقت أمي: (زين سوت يوم اشردت). شعرت بارتياح وفرح لما قامت به السمكة الشجاعة. هل رأت السمكة البحر من فوق الرصيف؟ هل ناداها؟ هل نادته؟ أم هو نداء الحياة! الناس ماضون في إيقاع حياتهم ومنشغلون بأسباب العيش، بينما السمكة تضحك في جلال البحر العميق. وأمي تهز رأسها وتبتسم!