كلما لملمت الشمس ما تبقى من شعاعها يبدأ الليل يغني لي، الوحشة تعزف أجراس السكون، والقلب يخفق في هدوء المطمئن، فسوف يسدل الضوء أجفانه بعد حين ونستكشف من خلاله خفايا الظلام، وترخي الظلال كهولتها على آرواحنا في المساء حين تغفو الأجفان من تعب النهار!، حين أطفأت مصابيح الكهرباء التي اضطهدت غموض الليل، وصمتَ الكون والكائنات والأشكال المبهمة التي ترسمها الأشجار والجدران والأشياء، وظلنا، ينطلق الخيال من قيود الوضوح ليبدع تصوراته المبهمة. ففي عتمة الليل وظلاله أبدع الإنسان أساطيره وحكاياته، وأوغل في أسرار الكون، رسم للنجوم الخرائط وعرفها بأسماء تدله على حركتها، وفي الليل جعل من القمر سميراً ودليلاً في البر والبحر، وجزّأ حركة العناصر إلى فصول وساعات وأشهر وأزمنة، وفيه أبدع الشعراء مآثرهم، وربما لهذا قيل إن الشعراء كائنات ليلية!.
بمصباح الكهرباء، فقدنا فتنة هسهسة الغصن في الليل، وزقزقة الطيور وأجراس حشرة «الزيز» تخترق جدران السكون، فقدنا بريق النجوم ودهشتنا، خطى القمر، بطيئاً سارياً في طرقات السماء ناشراً هالاته الشفيفة، فقدنا الإحساس بالفرق بين الليل والنهار، فلا أعصابنا تهدأ على وسادة الليل، ولا البراعم تطمئن إلى غفوتها في انتظار الصباح، ولا العشب يغفو ولا الأشجار يلفها رداء الليل ورأفته، ولا الطرقات تبترد من وقع الخطوات، ولا خيالنا يسرح في نعمة التأمل، فكل ما حولنا تحت سطوة المصباح، مفضوح وفاقع.
ما أن توشك الشمس على مقاربة المغيب، ما أن يوشك النهار على لملمة ضيائه ليغفو على وسادة الليل، حتى نسرع إلى إضاءة المصابيح كأننا نخشى الظلام، ونخشى لا وحشة الليل، بل وحشة النفس في عتمة الليل، حين يزورني ابني «قيس» في الليل لا يحب أن أشعل المصابيح في الحديقة، لأنه كما قال لي، يريد أن يحس الليل، يلمسه، ينصت لصمت الظلام، يريد أن يرى أشجار الحديقة ونباتاتها، مبهمة في أشكالها، يرى خطى الليل متأنياً يلف البيت والحديقة في عباءته الوسيعة، يريد أن تختفي الملامح وتفاصيلها لينعم بالتحديق في الكتل. قلت له: أنا أيضاً أحب أن أرى لعبة الظلال، ظلي وظلك وظلال الشجرة، فحين نطفئ مصابيح أديسون يهدأ البيت من ضجة الضوء، ومن ضجة الكلام والأقدام، كأنما الهمس من طبيعة الليل، وخفوت الخطى بعض رهبته، وحين نحدّق في الليل نرى ما لا نراه في النهار، وننسل من عتمته إلى ضياء الروح!.