بت مؤخراً ولأسباب اختيارية أميل إلى الصمت، وعلى غير عادتي في حب المشاركة والتطارح، وقناعات أخرى لا داعي لذكرها الآن، وجدتني لا أعلق أو أشارك، ورغم سهولة هذه الكتابة، إلا أن فعلها غالبني وأرهقني بشدة.. ولكني أتعلم. ويزداد إصراري على هذا الأمر كلما بدت ثماره تتأتى بهدوء تحت قدمي.
وأول ثمار ذلك الفعل هو شل حركة من نصب نفسه خصماً أمامي، في وقت يكون هو في أشد الحاجة لكلام مني، أي كلام.. فقط ليبث سمومه خارج روحه بعد أن امتلأ بها، فيما يكون الصمت فرصة لكي تعمل الحواس وتنطق بلغتها الحقيقية، لغة تفرض احترامي أمام نفسي وتقمع ثرثرة تولد التنافر والحقد. للصمت لغة عصية تجرد أياً كان من قدرته الوهمية وتدمر أسلحته المفتعلة.
إنه السلاح الأذكى عندما يكون الكلام واضح السلبية وخارج الإنسانية وبعيداً عن الحقيقة ومدعاة للّغط والتحزب، في هذا الوقت بالذات يصبح الصمت واجباً تستدعيه الحكمة. ففي أحيان كثيرة.. وكثيرة جداً، ورغم كل ما هو حولنا من صخب وتشنجات شاحبة، يبدو الصمت منعشاً باعثاً للتألق، فهو يحول صاحبه إلى ملك متوج على أشخاص تنافسوا في تكبيل أطرافهم بسلاسل الثرثرة والنفاق والأذى. الصمت عبقرية لا يدركها البعض ممن عطلوا حواسهم وانشغلوا بلغة بدائية لا عقل فيها.
في الحياة أصوات تستحق أن تُسمع، أصوات لا علاقة لها بالكلمات التي تخرج من أفواه البشر، ولكن حروفها تعيد ترتيب الكون وتسد كل فراغات القلق والخوف والفتن، لغة تُطهر القبح وتلون الكون بألوان السكينة. بهذا الصمت نسمح لأنفسنا بالعيش في مساحة براحة حقيقية نرمم فيها الكثير من الشروخ التي حدثت في غفلةٍ منا بيننا وبين الآخرين على الضفة الأخرى.