هبت ريح باردة من الشمال، استدارت السفن الخشبية الراسية في المرفأ، الشمس ترحل تدريجياً إلى المغيب، يأتي المساء مختالاً، وكأنه العريس، تضيء النجوم في السماء.. حالة المد والجزز تأخذ المراكب الراسية إلى اتجاهات مختلفة، ترحل طيور البحر عجلى إلى الجزر البعيدة، يحل الظلام متدرجاً، خطوة خطوة.. تمتد حبال السفن إلى رصيف المرسى وتُكوِّن أراجيح يجري البحر تحتها، منساباً مع حركة الأمواج الخفيفة، تظهر صورة جميلة وبديعة، عندما ينعكس الضوء على صفحة البحر، وتطفو الزوارق والسفن الخشبية وكأنها زهرة/ وردة نهر طافية... يحط طائر مهاجر غريب الشكل، له ريش رمادي وبني وأبيض، لا يشبه الطيور التي تظهر في هذا الميناء البحري عادة، طائر يماثل تلك الطيور التي نشاهدها في البحار البعيدة. يمد عنقه إلى الأمام، متفحصاً كل ما يحيط به، من سفن وزوارق، حذراً جداً، وكأنه جاء مطارداً، تخيفه الحركة، يعجبه المساء، ويكاد لا يأتي إلى الساحل إلا عندما يتبدل الوقت وتذهب الحرارة الشديدة، ويعتدل الجو، يطير برفيف سريع جداً. يستغل هدوء المرسى ويحط على حبال السفن الممتدة إلى الرصيف، والتي كونت أراجيح يحرسها البحر، يظل معلقاً بين السماء والماء، ثم يتأرجح في أمان، يجري البحر تحته مقدار ذراع أو أكثر، ومن المحال أن يقترب منه أي كائن فهو بين السماء والبحر، وحده ينعم بأرجوحته المسائية العجيبة، يظهر في تأرجحه وكأنه كاهن متوحد مع ذاته في هذا المساء الجميل، تزيد الصورة جمالاً تلك النجوم الساطعة والقمر المضيء الذي ينير المرسى، ثم الريح الباردة التي تأتي من أعماق البحر، لا أحد في المرسى، لقد رحل البحارة إلى منازلهم فور حلول الليل، وحده هذا الطائر الغريب ينعم بالبحر والنسيم العليل والأراجيح التي تمتد بين السفن والرصيف... أيضاً، وحدي أطوف بالأرصفة والمرسى الذي اعتدت أن أمد إليه المسير كل مساء، فهو لا يبعد عن منزلي غير مسافة قصيرة، وأجمل الأوقات وأروعها بعد الغروب مباشرة، عندما تمتزج الألوان بين رحيل الشمس وقدوم المساء، وظهور البحر بلونه النيلي البديع.
كانت اللوحة المسائية مكتملة التشكيل والتكوين، مساء للحالمين فقط وللطيور المهاجرة التي تنعم بهذا التحول البديع. كان وحده يتأرجح على أرجوحة الماء/ البحر، بخفة وحنان يهزه هواء الشمال، أمواج صغيرة هادئة تمر تحت حبال الأرجوحة، وطائر المساء الغريب يمد عنقه إلى الأمام وينظر للبعيد، وكأنه يناجي النجوم. اقتربت من صاحب الأرجوحة المتفرد بالوقت والزمن، لم يكن يغني، ولا يصدر أي صوت، فقط يتأرجح ويفكر في البعيد. عندما خطوت إليه أكثر، طمعاً في تفحصه عن قرب، شعر بأن أحداً يقترب منه، فرَّ سريعاً وكأنه الطلقة، طاف بمحاذاة الزوارق والسفن، مسح البحر بسرعة عجيبة، طار إلى البعيد في زمن قياسي سريع حتى اختفى. ندمت لأنني أزعجت هذا الطائر الحالم والمتفكر في زمنه ووقته.. لقد تدخلت في وحدته وعزلته الجميلة، أزعجه التطفل واقتحام خصوصيته. في الحياة دائماً هناك حيز خاص لكل كائن يود أن يحتفظ به، فقد يكون في لحظة دعاء أو مناجاة للذات أو الخالق أو غناء داخلي خاص، حتى الطيور تحلم أن تعيش بأمان وسلام ودون أن يزعجها أي شيء أو أحد.