وضعت طرف الثوب الطويل بين الأرصفة والطرقات والمحطات، ورحت أعدو في كل المسارات والبراري، وفي مساحات الضوء والعتمة، وفي حرائق الشمس واشتداد الحرارة، وفي العزلة والتأمل، وفي الحنين والتوحد، وبحثت عنكِ. 
في البدء كنتِ أنت ولم تكوني كلاماً عابراً، كنت أغنيتي، وكنتِ أنتِ في نهنهة المطر البخيل، وشقوق القحط، وحناجر الأطفال الذين يتضورون جوعاً، ويتفسخون في حرائق العري، لقد كنت أنت، أيتها النار الملعونة تحفّين بي، وتحتفين، وتعلنين صهيلي وحمحمتي، وكنتِ في احتفائك بي تمسحين الرماد والجمر وعطن التراب وحياد الألوان عني، فتنسجين الظلال لي والفل والورد والاخضرار. 
وبين حياد الدفتر وسواد الحبر وقلبي، كل شيء يصير دافئاً وهادئاً، وأصير أنا نزق الشاعرية ورعونة الاجتراح على حياد الورق وعتمة الحبر، كل شيء يصير حلواً وعذباً وحليبياً، وأصير أنا كلذعة المرارة فأتحد بكِ، بالسخونة والوقار، بالحلاوة والعذوبة والحليب، والمرارة، وأنتِ.. فتكون القصيدة! أعترف بأنني منذ زمن فتشت عنك بين دفاتري وكتبي والقصاصات الصغيرة المرصوصة كالمتاريس بين مساحات الجدران، وعلى الأرفف الخشبية المطرزة بالسكون وورق الجرائد الساكنة، كما فتشت عنكِ في بؤبؤ عيني وبين ملابسي وجلدي وأظافري، فما وجدتكِ!. سألت البحر عنك لكنه لم يجبني! سألت الرمل في الصحراء وهبوب الريح واشتداد القيظ، فلم تجبني أي منها! حدقت في ملامح الأصدقاء اللذين يمرون بي ويعانقوني، كما حدقت في كل أنواع الطيور، فما وجدتكِ، ناشدت أطفال الجيران الذين يقصفون أعشاش العصافير بالحجارة والقهقهات البريئة، والفتيان الذين يدحرجون الكرات بين أزقة الحارات، فلم يجيبوني! نقبت عنكِ بين تضاريس البلاد وحواجز الحدود، فلم أجدكِ، بعثت بإشاراتي إلى العمال في الطرقات والموانئ وصهاريج المصانع وخطى الغرباء على الأرصفة، والعائدين إلى أوطانهم بعد اغتراب، والعائدين إلى اغترابهم بعد هجراتهم من أوطانهم فلم يجبني أحد، ولم أجدك في أحد منهم.
فيا أيتها القصيدة التي تهب كاللهب حين اشتعال النار من الخشب، إني بعد أن أعياني البحث عنك جلست هادئة، وقلت: لكنني رغم النضوب والأسى، سأكتبك الآن أيتها القصيدة الجميلة بأي حال أو لأي سبب، قهقه الشعر ساخراً مني وقال: لكن أين اللهب؟ لا فكرة نزقة تراودك، ولا خيال جامح تمتطينه، ولا شوق يحتدم، في قلبك، ولا غضب!! قلت له: بلا سبب، تأمرني الكتابة، تنهرني الكتابة، تسوقني إلى النعيم مرةً.. ومرة إلى اللهب.. بلا سبب!