انشغلت خلال اليومين الماضيين بعالم مختلف تماماً، فوجدتني غارقة مستمتعة بمعارف عميقة لم أسبر أغوارها من قبل. فتحت عنوان «التراث البحري الخليجي المشترك»، عقد المؤتمر الخليجي الثاني عشر للتراث والتاريخ الشفهي في منارة السعديات في العاصمة أبوظبي، وبصراحة، وعلى غير ما عهدت من فعاليات المؤتمرات المختلفة، بلغ عمق أوراق العمل مبلغه، لدرجة توقعت فيها أن أمواج البحر القريبة من المنارة في مدينة السعديات تموج سعادة بهذه الفعالية المميزة، أما رائحته الحية فقد كانت حاضرة، بل أراهن أن كثيرين امتلأت رئاتهم بهجة بها.
خلال يومين، وعبر أوراق بحثية حية -رغم ضربها في تاريخ المنطقة العميق- عُرضت من خبراء ومتخصصين من دول الخليج العربي قدموا بإرثهم يحملونه فخراً وشغفاً وعشقاً، وأيضاً بحثاً وتمحيصاً ونقداً وتحليلاً، وهذا ما جعل جلسات المؤتمر حقيقة تداعب حواسنا جميعها، فسمعنا مطارق النجارة والحرفيين على أخشاب البوم بمختلف أنواعه التي تناسب كل جزء من السفينة. سمعنا آهات البحارة بأهازيجهم التي كانوا ينشدونها تشجيعاً وترويحاً عن أنفسهم. تابعنا معهم النجوم التي استدلوا بها إلى «مغاصاتهم»، وتحسسنا لآلئهم التي جنوها من أعماق البحر، وتتبعنا خطوط بيعها. وسعدنا بصيدهم الذي ابتكروا له وسائل باهرة، وفجعنا حزناً مع النساء على السيف أمام العلم المنكوس على السفينة العائدة مُخبراً بفقدان أحد أفرادها.
حول البحر وفيه عاشت أجيال وأجيال توالت على السيف ونهلت من أعماقه ونسجت ثقافة ثرية بالتفاصيل والغُرز العميقة بعمق البحر وامتداد أفقه، تفاصيل أكدت أن إنسان هذا المكان كان صانعاً للمجد رغم شح أدواته. بهذا وأكثر، انشغلت في هذا العالم الثري، فتحية من القلب والعقل لهذا الجمال الذي غمر منارة أبوظبي، وتقديراً يملؤه الحب لإدارة التراث المعنوي في دائرة الثقافة والسياحة، وتقديراً لكل العاملين في الدائرة، وجهودهم الصادقة والجادة، والتي ظهر جمالها في كل تفاصيل المؤتمر وفعالياته.