ما انسحبت أبداً من الذاكرة، فصول الدراما والتراجيديا التي عاشها مونديال إسبانيا سنة 1982، ومنتخب البرازيل يسقط صريعاً في «مذبحة تكتيكية» أمام منتخب إيطاليا، قيل يومها إن الطليان اغتالوا «راقصي السامبا»، واغتالوا معها الكرة الجميلة، بل وأغرقوا عاشقي «السيليساو»، وكل المتذوقين للفن الكروي الرفيع والساحر في بحر من الدموع.
وقتها خرج من يقول، إن الاحتفالية في الأداء مهما تسامت وأبدعت، فإنها لا تأتي دائماً بالألقاب والتتويجات، بخاصة إذا كانت في مبارزة مع الواقعية، لذلك كنت وكان غيري ممن أمتعهم المنتخب الإسباني بكرته الجميلة، وأدهشهم بسهله الممتنع، يخافون أن يتكرر مع منتخب «لاروخا» في «اليورو» المنتهي، ما حدث قبل 42 سنة مع منتخب البرازيل في مونديال الجنون، وكلما نجح منتخب إسبانيا في عبور نهر للتماسيح، وينتقل من دور لآخر، وهو يسقط أبطالاً للعالم الواحد بعد الآخر، من إيطاليا إلى إنجلترا، مروراً بألمانيا وفرنسا، إلا وعطل اليقين بأحقيته في التتويج باللقب الأوروبي، الشك الذي ترسله كرة القدم بين الحين والآخر في هيمنة منطق بعينه على القراءات.
كتبت مرة ومرتين عن الحفل الكروي الأوروبي الفاخر، وما خصصت كتاباتي اعتباطاً للمنتخب الإسباني، وأنا أبشر بأن يكون هو بطل هذه النسخة، فكان عنوان الإطلالة الأولى «لاروخا فارسها المثالي»، وكان عنوان الإطلالة الثانية «لا عجب إن كان البطل»، وفي ذلك وصلت لدرجة اليقين، أن الفريق الإسباني وضع للعبة قواعدها، ورسم لجغرافية اللقب تضاريسها، ومهما كان الآخرون بارعين وحاذقين، بل وماكرين في نصب المصائد، لتعطيل السفر الإسباني، فإنهم لن يفلحوا في ذلك، لأن البطولة لها جلباب مقاسه موجود في «لاروخا».
وعندما يجمع الكل على أن المُتوج في هذا «اليورو» هي الكرة الجميلة، الجمال بتعريفه الحديث، والذي يصور البراعة في تصميم شكل اللعب الإعجازي، وتنزيله بحذافيره في الملعب، فإن ذلك يعيد الاعتبار أولاً لـ «التيكي تاكا» التي ظننا أنها ماتت، شاكلة وفكراً تكتيكياً، بينما جاء لويس دي لافوينتي ليعطيها إكسير الحياة، ويقدم الدليل ثانياً أن الفريق الذي يكبر في المناسبات الكبرى، ويكون أهلاً للفوز بالألقاب هو الذي يتمثل روح فكر مدربه، ويعيد ثالثاً حقيقة أن الكرة الجميلة يمكن أن تسمو إلى درجات الخلود، برغم ما يواجهها من عصف تكتيكي مضاد.
كان منتخب إسبانيا هو النجم المطلق لهذا «اليورو»، خلصه من الرتابة التي عصفت بكثير من مبارياته، أنقذه من التفسخ التكتيكي، وربط الناس مجدداً بالكرة الجميلة التي لا يقال فيها ولا يكتب عنها إلا ما هو جميل، فكيف لا يكون هو البطل المثالي والفعلي.