في أحيان كثيرة تحضرك الفكرة وتظل تجوس في قلبك وتحرك الأمواج في الرأس وأنت تبحث عن الكلمات ذات الدلالة على توصيف المعنى، وتحدق هنا وهناك، وتشخص البصر في اللاشيء، وكأنك تتابع طائرة مخطوفة تحوم حولك، والفكرة تتحرك في رأسك مثل بقعة زئبق في قاع صحن زجاجي، ولما تعجز عن التقاط الكلمات تشيح وجوماً مكفهراً منغلقاً على نفسك، وما أن يدخل عليك شخص من أهل بيتك حتى تشعر بالضجر وينتابك شعور بأن صباحك مزدحم بتكالب العثرات، ولا بد أن تفعل شيئاً ما يمنع هذا التدفق المريع للحواجز النفسية، فتنهض وقد تصرخ في وجه الزائر، وتبدي شعوراً سوداوياً تجاهه، وقد تخلق هذه المشاعر تكسرات عميقة في علاقتك بمن تظهِر له هذا الاحتجاج؛ لأن الذي لا يعرف مأزق الكتابة في حالة ضياع الكلمات لن يقدر مثل هذه المشاعر، بل وسوف يتخذ موقفاً حاداً تجاهك، وقد يخاصمك ويعتبرك أهنت كرامته عندما أقبلت نحوه بهذه القسمات الحادة، وأظهرت له أنه شخص غير مرغوب فيه.
ولكن في بعض الأحيان تأتي الفكرة كعروس تسحب خلفها الكلمات كأنها الشال الحريري وتظل أنت تلامس شفافيتها، تظل أنت تسعد بتدافعها كأنها الجدول المنهمر من علٍ، وفيما لو دخل عليك شخص ما وتوقف برهة وظل يتابع أنفاسك وكأنك في صراع مع الوجود فلن تنتبه إليه ولن تتوقف عن الكتابة؛ لأنك في هذه اللحظات تكون في حالة سباق فروسية مع الكلمات تكون تلاحقها مثلما يلاحق الطير فريسته، وكلما أكملت جملة مفيدة كلما امتلأت سعادة وفاضت كأسك بشغف نحو ما يتبع المقال المراد كتابته.
ولكن السؤال: لماذا تحدث هذه الممانعة في انثيال الكلمات ولمَ يتعسر عليك اصطيادها؟ لا شك في أن اللاشعور له دور محوري في صناعة الكلمات ولا بد أن العقل الباطن وهو مخزن اللاشعور يلعب دوراً جوهرياً في تهيئة الظروف النفسية المناسبة لتناول فكرة معينة ومعها اصطياد الكلمات التي تعبر عنها وعندما تتعرقل العربة، فلا بد من وجود عناد للخيل التي تجر عربة الفكرة، فالكلمات تتعسر شلالاتها عندما يكون العقل الباطن منشغلاً بأفكار أخرى يجد أنها الأجدى والأهم؛ ولذلك فإنه من الضروري عندما تحدث مثل هذه الظروف التوقف عن الكتابة، ومنح العقل استراحة محارب إلى حين يصفو الرأس من غبار الأفكار المعرقلة، ثم البدء في الكتابة، وسوف تأتيك الكلمات مثل زخات المطر تبلل صفحات القلب والتي بدورها تسعد شجرة القريحة، وتجعلها تدلي أغصانها المفعمة بالثمار السخية.
العقل الباطن قوة صارمة وآلة ضاربة وتستطيع أن تحول العالم إلى كومة أوهام، كما يمكنها أن تجعل منه بستان قصائد فيحاء تفوح بعبير الأحلام الزاهية.
العقل الباطن هو السر في كل ما نقوم به، وأحياناً نتصرف بعفوية ونظن أننا واعون لما يحدث، بينما هو سيل عرم يأتي من أقاصي الوجدان في مكان يطلق عليه العقل الباطن، هذا العقل مصنع كل الأحلام والتصرفات التي نقوم بها ولا نعرف مصدرها.