التراث ليس عملة قديمة نحاول شحذها كي تلمع في عيون الأجيال.
التراث ليس مجرد فكرة تاهت بين الكتب التاريخية ونجتهد الآن لكي نخرجها أمام الملأ، ونجعلها مادة للحديث عن شيء ما جرى في التاريخ القديم.
التراث أهم من أن يكون حفلة كرنفالية مبهجة تسر القلوب.
التراث وعي الطير في التحليق والرفرفة، وإدراك الطفولة في المشي على تراب حبات رمله من جوهر التكوين والخلق.. التراث ليس لعبة مزدوجة، بل هو تاريخ من الصعود والنشوء والارتقاء وصناعة الوعي في أذهان أجيال متعاقبة يشد بعضها بعضاً. وأتصور أنه لو فكر العالم بتكريس التراث كمادة علمية تدرّس في المدارس والجامعات والمعاهد ليست كمادة تسلية وترفيه، بل هي كتاب يتلوه العشاق لأجل تضاء معارفهم وترتفع مداركهم عن مستوى البحث عن الجديد في خواء الذاكرة، وتحديث العقل باستمرار من دون استدعاء العقل لكي يقدم أوراق اعتماده أمام تاريخ تأصل في الوجدان وتجذر في الحياة، وأصبح جزءاً لا يتجزأ من تاريخ النهضة الحديثة؛ لأنه ما من خطوة باتجاه الأعلى إلا وسبقتها خطوات كانت هي قاعدة سلم الصعود. فلا يمكن للتقدم أن يحدث إلا من خلال إثراء الأصل وليس نسيانه. ولكي نتقدم علينا العودة إلى الأصل، وللحفاظ على المكتسب ينبغي تجديده باستمرار من أجل الفرد والمجتمع، ومن أجل الذات والآخر «أدغار موران».
نحن في كل مراحل تطورنا نحتاج إلى التراث ليس من أجل التباهي، بل من أجل أن نشد بنيان حضارتنا، ونقوي من عضدها، ونسندها بأسس راسخة في الوجدان متجذرة في القيم، ولا شيء في الحياة يكتمل بنيانه من دون الاتكاء على ما قبله من قواعد وقوانين طبيعية. والتراث هو ذلك العمق التاريخي الذي يجعلنا نذهب إلى المستقبل متسلحين بأبجديات لغة الحداثة، يجعلنا مؤزرين بأحلام الطير في التحليق، يجعلنا منسجمين مع الحاضر، والذي يؤدي بنا نحو المستقبل، وما المستقبل إلا مرفأ ننطلق منه إلى تاريخ جديد يصبح هو المستقبل، وما قبله هو الماضي.
الماضي ليس أداة تم استهلاكها ومن بعد فقدت صلاحيتها إلا للفرجة، وإنما الماضي زمن يعيش في داخلنا وتنمو أشجاره تظلل حياتنا وتمنحها القدرة على البناء وتطوير ما يلي من أبنية اجتماعية ملحة وأساسية في تشييد أركان المستقبل، والتراث هو ذلك الجدار الذي منه وفيه وعليه وبه تترسخ أبنية المستقبل، ولذلك نقول يجب أن يصبح التراث فصلاً من فصول مادتنا الدراسية، وأن يكون الخيط الذي فيه نربط عناقيد جوهرنا الثمين وهو الوعي.
فمن لا يعي دور التراث، فإنه يسحب من ثقوب حبات الجوهر خيط الترابط والتزامن والتواصل مع فصول الزمن.
الزمن ليس وحدة متقطعة من ثلاثة أزمنة، ماضٍ وحاضر ومستقبل، بل هو نهر واحد يقودنا إلى حقل القمح الذي منه تتغذى معارفنا وتنمو جذورها طواعية، وبفطرة الأشياء المخلوقة من أجل الاستمرار في الوجود حية زاهية راقية متطورة مزدهرة، توشحها ورود الجمال بقلائد ثمينة.