- هي تأملات في صورة ما زالت منطبعة في الذاكرة منذ الصغر لرجل من ذاك الوطر الجميل المطرز بعفويته وبساطته، والصابر على تقلبات الحياة وقسوة الطبيعة وما فيها من شرور وأذى يجرح الإنسان، يتماثل لي كما أراه الآن بطول الرجال الأولين، وصلابة ملامحهم، على جنبه كندورة عربية ممَلّحة، بطربوشة بقدر الشبر، وعمامة تميز رجولته، وعصا في اليد، وخنجر يطوق البطن، حارساً أميناً من غدر الوقت، يدخل حظيرة حوش بيته مقدماً ابتسامة المحيا، تاركاً خلفه ثقل الأشياء، يتراءى لي الآن، وأقول: بمثل ذلك الرجل قدرنا أن نعبر من ظلال الماضي لغبش الحاضر، صانعين جسراً من جريد النخل، مقدمين الرِجل اليمنى، مبسملين، وحامدين، وغير غافلين.
- يا لتعب الأيام، وقسوة سنين المحل والشقاء، وتلك المعاناة التي جُبل عليها إنسان هذه الأرض، من أجل أن يبني له مكانة تحت جنح الشمس، في كهف جبل أو واحة نخل أو جزيرة غافية على اليابسة.
- ما أجمل تلك الفرجة بين حظائر من جريد النخل، وبيوت من سعفه أو من صلصال الطين، شجرة لوز أو سدر أو شجرة تين، كنا متصالحين مع النفس في محاولة مد جسر من عصر مقبل إلى وقت مضى، وقد يتلاشى أو يتماهى مع عهد جديد، وحدها تلك السُحنة العربية التي لوحتها الشمس في حرقة عطشها، ولهيب صحرائها، تطل غير عابئة بالذي قد يحدث من حريق في مدن السواحل المنتظرة.
- ما دام هناك عذق من نخل يحمل تباشير الصبر وما يأكلون، وما دام هناك «رايلة» أو راجلة من جذع شجر يابس واقف، يحمل جرار الماء، وقربه وسعونه، تلك المنظومة التي جعلت إنسان هذه الأرض قادراً على أن يحفر الصخر من أجل الماء، ويزرع النخل من أجل الحياة، ويسافر في زرقة البحر من أجل الرزق الحلال.
- دامت ابتسامة الرضا، تلك المعلقة بين الأرض والسماء، ودام ذاك الثوب الأبيض الذي تخفق الأرواح فيه، وأحب إليه من دمقس وحرير، وعمامة هي من تيجان العرب، وأحب إليه من لبس تيجان الملوك والسلاطين، ولحية بيضاء مسدلة على الصدر، دفء الحفيد ولعبه وضحكه، وفخر الرجال الطاعنين، المظعنين بحثاً عن كلأ وماء، وظل ظليل، الساردين من محفوظات صدورهم، ومن خزائن حكايا السنين.
- هي قراءة في لوحة لذلك المنزل القديم البسيط الذي كانت أركانه؛ رجلاً يحرس في الخارج، ويحرث من أجل البقاء، وامرأة تحرس في الداخل، وتحرص على غزل ذاك الجسر الموصل من جريد النخل.