العرب يفرحون بالجغرافيا، وما يمكن أن يمتلكوه منها من أراضٍ وفيافٍ وقفار، لكن غير متصالحين مع التاريخ وجدليته، بدليل تكرار الأخطاء والإخفاقات، وفرح الاكتفاء من الغنيمة بالإياب، العرب مستعدون أن يحنطوا التاريخ في ماضيهم، ولا ينبشوا تاريخ حاضرهم، ولا أعتقد أن هناك شعباً من الشعوب رماه الدهر بشرر، وتلقى من الهزائم مثلما تلقت الأمة العربية، على الرغم من أنهم لا يحبون الهزيمة، ويبيّتون الثأر، ويمكن أن يضحوا بشيء كبير مقابل شيء صغير، وما حديث حرب البسوس بسبب ناقة جرباء، وعجوز عجفاء، والتي أوقدت حرباً لا تبقي ولا تذر مدة أربعين سنة، إلا مثالاً في الذهن حاضراً، المهم أن لا تغمض للعربي عين، وهو مغبون أو مهزوم، خاصة حين يكون الحق على الأخ وابن العم والصديق والقريب، فهو لا يسامح مثلما يتسامح مع الغريب، لكن سلسلة الهزائم العربية والتي يلونها العربي أحياناً بمصطلحات تخفف من وعورة الجرم، ونجاسة الموقف، ولكي يتوازن في الحياة، ولا يشعر بتبعية الذنب، كثرت وتسلسلت منذ الخروج من الأندلس الخصيب، وبكاء عبدالله الصغير ابن عائشة الحرّة مُلكاً مضاعاً لم يحافظ عليه كالرجال، هناك خرجت آهات حسرة العربي الأخيرة، ولن ينفك يزفرها كلما تعثرت به قدم، وكلما صبّت السماء عليه هزائم، لا يشفع لها الدعاء، لقد تداعت الأمم على العرب كما يتداعى الأكلة على قصعتها، ورأوا بأس الأولين والآخرين، وشهدوا الفظائع من الأمور ما شابت له رؤوس الصغار، بدءاً من الخلاف والاختلاف بعد وفاة الرسول الكريم، صلى الله عليه وسلم، ورفع السيوف والمصاحف جنباً إلى جنب، والعودة لجاهلية القبيلة والاحتراب، مروراً بتولي الموالي والمماليك سدة الخلافة، وتلاعب الخدم والجواري بتعيين خلفاء ضعاف لأيام وأشهر لتسيير أمور الخلافة العباسية، وهجوم التتار، واستباحة عواصم عربية كدمشق وبغداد، حتى تقاتل ملوك الطوائف في الأندلس، وتسليم مفاتيح عاصمتهم غرناطة صاغرين، وبدء محاكم التفتيش، وانتهاء بخلافة العثمانيين، والجهل والتجاهل اللذين أقحموا فيهما طوال ثمانمائة عام، ثم استسلامهم واستلامهم من قوى الاستعمار كميراث للرجل المريض في القسطنطينية.
ذاك جزء من التاريخ والواقع العربي المؤلم، لا شك أن هناك مناطق مضيئة فيه، وفيه رجال متنورون، وفيه وطنيون، وفيه نُبلاء، وشرفاء، مثلما فيه خونة ومنتفعون، ومتخاذلون ومرتهنون لإرادة الغير.
اليوم.. لا نريد وحدة عربية لا يغلبها غلاّب، ولا وحدة عربية من الماء إلى الماء، نريد فقط التنسيق في الأساسيات والضروريات، ومقومات بناء حضارتنا العربية الجديدة، بعيداً عن عنتريات الماضي التليد، وسبراً لمكان موضع أقدامنا في المستقبل المنظور، يمكننا أن نلتقي في نقاط تقاطع حينما تصل الأمور إلى حد جرح العظم، فقط أوجدوا مساحة تقاطع اقتصادي، وتقاطع ثقافي، وتقاطع سياحي، وتقاطع لإعلام خارجي، وتقاطع لمنظومة دفاعية مشتركة، وتقاطع لمناهج تعليمية مشتركة، واتركوا السياسة جانباً، لأنه من الصعب أن تسوس العربي وتقوده، لكن يمكنك أن تتفق معه على مصلحة مشتركة، ووعد بغنائم غير مؤجلة، وإلا إذا ما أبقينا الحال على ما هو الحال، فإن أمهات الهزائم قادمة، وأمهات المعارك آتية، فقط فكروا كجماعة، وتصرفوا كأفراد، لأن قوة العربي وهمته وبأسه منفرداً عن عشرة رجال، غير أن عشرة رجال من العرب إن اجتمعوا لا يساوون قوة رجل واحد!
وتلك المقولة التي ما زالت تحتضنها قلوبنا، وتفرح أعداءنا، وقيل إنها جاءت من المصلح الاجتماعي العربي «ابن خلدون»؛ «لو عُرّبت خُربت»، علينا أن نعيد صياغتها في العصر الراهن، وما فوق الحداثي، وأن نتخلص من أسمال قديمة ما زلنا نتدثر بها، ونتدثر بنصوص مغلقة، ونحن نعيش في بيوت ذكية، تتطلب منا استعمال العقل قبل النقل!