ليس أجمل من مسرة تقرع نافذة القلب فجأة، وتقول: لِمَ يتعب الإنسان قلبه الصغير الذي لا يحتمل أو يتحمل؟ لِمَ لا يطيّر الإنسان حمائم قفصه الصدري باتجاه مناغاة الريح، وجلب البشائر، واستدراج الضحكات الكثيرة الغائبة؟
لِمَ حين يلتقي الأصدقاء القدماء، أصدقاء المنازل الأولى، حيث الطين والرمل والماء وَالنَّخْل، والأبواب المشرعة منذ الفجر، وحتى الليل وهدأته وصوت السكون، أصدقاء الصفوف الأولى، زملاء المقاعد المدرسية الخشبية، رفقاء السنوات الدراسية، وملاعب الصبا، قرناء الخير والشر، الأتراب، أخوان الطفولة المبكرة، والشباب الغض، وعمر الدهشة والاكتشافات الأولية لكل الأشياء، وأمور الحياة، تسمع تلك الضحكة الخارجة من الخاطر؟ لِمَ حين تلتقيهم مصادفة، أو يجمعكم عرس، تظهر فجأة تلك الضحكة الغائبة منذ دهر؟ لِمَ يتصاعد دم الفرح في الوجه، وتشعر أن معدل مؤشر السعادة قد ارتفع، جاعلاً نشاطاً فجأة يسري في كل أطراف جسدك؟ لِمَ تشعر أنك بخير، ولا شيء من هواجس العمر والجسد، إلا الحمد والشكر اللذان يترادفان مع تلك الضحكة الخارجة من القلب، مثل رغيف ساخن ساعة شتاء ومطر، وفتاة خبأها لك الوقت؟ هل هي الأشياء المشتركة التي جمعها سير العمر؟ أم هو ما رافقها من ضحك وجنون ولعب، حيث لا حسد، ولا ضغينة تسكن النفس، ولا شيء غير تلك العفوية والفطرة التي تقود خطانا نحو البراءة الكاملة؟
الأعراس هي جالبة ضحكة الأولين الغائبة أو التي تسترها الدنيا الْيَوْمَ، ولا أحد يدري ما هو السبب، فجأة كبرنا، والذي كنّا نحطب له الحطب في عرسه، ونفزع معه ذاك الْيَوْمَ، ها هو ابنه الْيَوْمَ معرس أو أن ابنته التي كنّا تمنينا لها ولزوجها العام الفارط أن يكون منه المال، ومنها العيال، هذي هي اليوم تزف له بشارة أنه أصبح جداً، وعليه أن يحُضّر من الآن مسبحته، وعكازته، كنّا وما زلنا نحن الحضور والشهود، ولكن مع سنوات زائدة، ومسؤوليات نُكبّرها، فتكبر على رؤوسنا، وتغيب معها تلك الضحكة التي كانت ترنّ في الأذن.
«مساكين جيل الخمسين والستين والسبعين»، هم الطيبة الباقية، والأمانة والصدق، هم كما هم، وهم زينة هذه الأيام بعد ما ودعنا رجالاً من وقت وتعب، رجالاً ونساء لن يتكرروا، كانوا مثل قناديل في تلك البيوت الكبيرة الواسعة كمركض فرس، كانوا دفئها، وكانوا عطرها، لم يبق منهم الْيَوْمَ الكثير.. الكثير، فقد تناسلوا مثل سبحة صلاة، وفِي غفلة عنا ومنا، وكدنا أن نبكي كل شهر واحداً منهم، ونترحم كل ثلاثة أسابيع على واحدة من عجائز الدار الطيبات، ونحن ذاك الجيل الذي يراوح بينهم وبيننا محاولين، بقدر ما تسمح به تلك الطيبة الباقية سمة أهل الدار، أن نكون مثلهم أو دونهم أو نحلّ محلهم، لكن الوقت غير الوقت، والنَّاس ما عادوا مثل الناس.. لذا تغيب عن محيا جيل الخمسين والستين والسبعين تلك الضحكة الأولى، الذاهبة نحو البراءة المطلقة، حتى تحضر فجأة إذا ما ضمهم مجلس أو جمعهم عرس أو تلاقوا على وليمة بتدبير من أحد الكهان، يخفون بياضاً غزا الرؤوس، لا يودونه أن يخرج من ستره، متعكزين على صبر الأولين، وما ورثوه من شظف عيش المرحلة، وحين تتلاقى العيون تستبشر الوجوه، وتخرج تلك الضحكة الغائبة منهم وعنهم، والتي لها رنين في الأذن، وتسعد النفس كشربة ماء بارد ساعة حرقة العطش! ما أجملهم.. أولئك الطيبون دراويش الوقت والتعب، ندماء الواجب، عنوان الصدق والشرف.