لا ينمو الكذب إلا في فضاءات متسعة، ويصبح سكان ذاك المكان غير متعارفين وغير متجانسين، ويسعى الواحد لاقتناص الفرصة للنيل من الآخر، وفي الفضاء الافتراضي للأجهزة الذكية ظهر الكذب من أجل الترويج، ودعم النشاط، والضحك على البسطاء، وفي الأزمان الماضية كان كل الناس يدعي أن حبل الكذب قصير، ورغم ذلك يكذبون، وبعضهم لا يبالي بها في وضح النهار، وما دام الحبل لم ينقطع سيظل يكذب، ويبني قصوراً في الرمال أو يبني قلاعاً في إسبانيا على رأي المثل الفرنسي، ولا أحد من الناس ذكر أن حبل الصدق طويل أو أن حبله لا ينقطع، وتجد أكثرهم يتبع الكذاب لباب الدار، لكن في الطريق يقنعهم أن لا الدار له، ولا الباب يمكن أن يفتح لهم، فيأخذهم لنهج آخر، على جوانبه أنهار من لبن وعسل، فيصدّقون ذاك السراب الذي كان يجري على لسانه الرطب.
في دراسة تحليلية أُجريت على عينات كثيرة من الناس في وسائل التواصل الجديدة خلال السنوات العشر الأخيرة تبين أن الكذب كان السائد على ذلك المسرح الافتراضي، والصدق هو المتواري، وأن المعلومة السريعة عادة ما تكون كاذبة، ولا جذور لها، وأن الأشياء الكاذبة تنتشر أسرع وأكثر من الأشياء الصحيحة، لأن في تلك المساحات الوهمية لا ورق، ولا حبر، ولا صدق، ولا مسؤولية، ولا مرجعية، غير أن الدراسة لم تسبر أعماق هذه التجربة، ولما هي اليوم غدت ظاهرة، علينا تقصيها، وتقصي حقائقها؟ ولما يذهب الناس نحو الكذب، ويحبون الكذب، ويريدون لكثير مما في حياتهم أن يصبح كاذباً؟ هل لأن الحقيقة واقع قاس؟ هل الكذب مثل الأحلام نحب أن نعيشها، ولا نصحو منها؟ لما ينجرّ الناس وبسرعة نحو الكذب، كفراشات يجذبها وهج النار، ويتمنونه في دواخلهم لو كان صادقاً؟ في حين يجانبون الصدق، وبعض الصدق والواقع يتمنونه لو كان كذبة وستعدي، ولا يحبون أن يعيشوا لحظاتها باستمرار.
لذا لا غرو أن يتصدر الكذّابون منصات التواصل الاجتماعي، وبعض الأجهزة الإعلامية، لأنهم يجيدون ما تطلب، وما تتطلب تلك المهنة التي استسهلها الكثيرون فامتطوا ظهور وسائل التعبير، ووسائل النقل والبث، وأدركوا بحسهم الصادق مدى تأثير الكذب في حياة الناس، حتى أنهم يطلبونه، وتيقنوا أن حبل الكذب ليس بالقصير دائماً، بدليل أن بعضاً ممن تصدروا وتبوؤوا منصات وسائل الإعلام والتواصل الاجتماعي ما برحوا يكذبون، ويكذبون منذ سنين، ولَم يكلوا، ولَم يملوا، لأن كثيراً من الناس ما زال يلهث وراءهم، وبالتالي وعملاً بعبارة منظّر الإعلام غير الصادق، ووزير الدعاية النازية «غوبلز»: «أكذب.. وأكذب حتى يصدّقك الناس»، هي السائدة في معظم العصور!
لا أدري هل ميزة الكذب، إذا كان بالإمكان أن نعد مميزاته، يخص الإنسان وحده، أم أن هناك كائنات حيّة أخرى كالحيوان تتمتع بتلك الميزة السلبية؟ نعرف أنه قد يمكر الثعلب، والمكر مصدره الذكاء، وبعض الكذب، ويمكن أن تتحايل بعض الزواحف، وتتستر خلف ألوان وأقنعة غير صادقة من أجل توفير صيدها أو هرباً من عدوها، لكن هل يكذب الأسد أو هل هو بحاجة ضرورية لكي يمارس الكذب في مساحة هو سيدها؟ هل يجتمع وفاء الكلب مع الكذب؟ الطاؤوس يكفيه جمال ريشه لكي لا يتعرف على شيء يدعى كذب في الحياة، العصافير التي تحتاج في اليوم لقطرة ماء، وحبة قمح فقط، هل يمكن أن تعرف أفواهها التي تصدح بالزغزغات والغناء معنى للكذب؟ أما الفيل فمن المعيب أن يكذب وهو بذلك الحجم الرهيب!