البحث عن السعادة حين يستبد بنا القلق وتفترسنا الكآبة، حين ننتبه إلى أن ما حولنا وما بين أيدينا لا يمنحنا الإحساس بالرضا والسعادة، حين نستشعر الغضب حيناً واليأس حيناً، حين كل هذا وبعض هذا، نتوق إلى البحث عن السعادة أو عن مفهومها ودلالاتها وأسبابها في أنفسنا، وفيما لدينا وما يحيط بنا. فما هي هذا السعادة التي نتحدث عنها ونطلبها؟ السعادة إحساس يمر بنا خطفاً من دون أن ننتبه، لأننا نستشعرها بغتة لسبب قد يكون بسيطاً في ميزان العقل، كأن يقع بصرنا على مشهد زهرة تفتحت في باكورة الصباح، أو لنسمة منعشة في الهجير، أو لذكرى عابرة، أو لمذاق طعام لذيذ، أو صحبة حلوة. وهي لا تخضع للعقل إلا كمطلب غريزي، وربما هو مطلب إنساني نسعى له بأفعال قد لا تأتي بالسعادة التي نتصور أنها هي. وقد نشعر بها لحظة غامضة بوصفها إحساساً هادئاً ينسل إلى أعماقنا بيسر وعذوبة ويحتوي خلجاتنا كلها، يشملنا بالرضا والتسامح، بالرحابة والمحبة التي تغمرنا وتفيض على ما حولنا. لذلك لا تشبه الانفعال الصاخب الذي يولده الابتهاج الشديد. ومع ذلك فالسعادة لا تُقيمُ، لأنها عصية على بساطتها، وخاطفة رغم حاجتنا إلى ديمومتها.
أبو نصر محمد الفارابي أفرد لها فصلاً في مدينته الفاضلة، يرصد أسبابها وكيفية الوصول إليها بوصفها الكمال وحده، والغاية التي ليس بعدها غاية. يقول: «وعندما تحصل المعقولات للإنسان يحدث له تأمل ورويّة وذكر وتشوق وتفكر إلى الاستنباط، ونزوع إلى بعض ما عقله، وما أدركه. فإذا كان عن إحساس أو تخيل سمي الإرادة. وإذا كان عن رويّة سمي الاختيار. وحصول المعقولات الأولى للإنسان هو استكماله الأول لشرط المعرفة. وهذه المعقولات إنما جعلت له ليستعملها للحصول على السعادة».
ولأنه يدرك أن السعادة المطلقة لا يمكن أن تتحقق لمجرد إدراك المعقولات، يستدرك: «ألا إن رتبة (السعادة) تكون دون رتبة العقل الفعال، وإنما تبلغ ذلك المبلغ بأفعال إرادية، بعضها فكرية وبعضها بدنية. ذلك أن من الأفعال الإرادية ما يعوق عن بلوغ السعادة. والسعادة هي الخير المطلوب لذاته، وليس ما يناله الإنسان أعظم منها». والأفعال الإرادية التي تنفع في بلوغ السعادة عند الفارابي هي الأفعال الجميلة، أما الأفعال التي تعوق عنها فهي الأفعال القبيحة «الشرور». تلك هي السعادة في مفهوم الفارابي، ذلك هو بُعدها وجوهرها. ولأنها الغاية القصوى للنفس البشرية فإنها هي مطلبه الدائم!