في كل يوم سبت نجتمع في البيت العود، وهذه الساعات هي أجمل وأسعد ما في الحياة، إذ يغلب الضحك على كل شيء، وبعد الضحك وحرق كمية لا بأس بها من السعرات الحرارية جراء ذلك، يأتي الغداء، وقد أحضر البعض «قواطي الحمية»، والبعض الآخر جاء بالجديد، إما من صنع بيتهم أو فنتك جديد لصنفٍ من الطعام لم نأكل مثله من قبل، مثل البوكي والساباو الهمبا مع عيش الياسمين المعصود وغيره.. ما شاء الله الخير فضيل ونحمد الله على هذه النعمة، المهم نظام البوفيه لا يتماشى مع بيتنا، إذ تقوم سيدة البيت فتغرف لكل صغير وكبير.. هكذا عودتنا والدتي رحمها الله، وأرى في ذلك كثيراً من الحب والاهتمام والمودة، فهي تعرف أي جزء من الذبيحة يحب كل فرد، فلا يغلب حب أحد على حساب الآخر، فالرأس لمن يتكبد مشقة كسره، والكبد للمتعافي والمرأة الحامل، أما الكتف فقد كان من نصيب المرحوم عمر، وأصبح في قسمة على ورثته. وللعلم، وعندما يكون الطعام الرئيسي برنيوش ومقلياً، فرأس الهامور محجوز لشخصٍ لا يتجاوزه أحد، وباقي القطع توضع بلباقة في صحونٍ مختلفة.
في هذه الجلسة العميقة حباً وسعادة ليس بيننا من يتحدث أي لغة أجنبية، فعندما شممت رائحة ذلك ذات يوم قطعت حبال السعادة، وبصوتٍ شاهق قلت لهم: لن أحضر هذا المجلس إن تكلمتم بغير العربية! بعد ذلك بلحظاتٍ قليلة جاءت علياء بالخير لتقول لي: خالوة عموة عمي يتكلم أنجليزي! ذهبت إليه وبحلقت فيه فسألني: يا الله..منوه خبرك! همست في أذنه: تصور هذه الطفلة تحاول الحديث مع والدتك وحبال التواصل فيها تغريب لا تقريب.. وبصوتٍ مسموع اعتذر لي ولها.
بعد الغداء تأتي فترة «المعاياة» وهي فقرة مهمة من برنامج الغداء إذ يتناولون موضوعاً ويتعاشون عليه، والقصد من المعاياة أو المعاشاة تناقض الآراء وإصرار البعض على رأيهم، وهي قضية بسيطة قد تكون رقماً أو اسماً أو معلومة جيولوجية وما شابه. تلي هذه الفقرة «الامتحانات» وهناك أسئلة توعوية وتثقيفية تشمل آداب المجلس والمعلومات الدينية الخاصة بقصص الأنبياء وقصر الصلاة وجمعها وما إلى ذلك. كنت في حديثي مع سمية بالخير عندما ارتفعت الأصوات منها ماهو ضحك ومنها ماهو تعليق ساخر، فقلت لها: تصوري..نحن نحاول أن نزرع ذاكرة لهؤلاء الصغار ويبدو أن ذاكرتهم ستكون مليئة بالجدل البيزنطي! قالت: عزيزتي عائشة، سيذكرون كل شيء لأننا لم نهبهم سوى المحبة الصريحة، ونحن امتداد لتربيتنا التي لا نعرف سواها. فقلت لها: صحيح، هذا هو هدفنا الأسمى يالغالية. وتفعيلاً لما قالت جادت على الصدفة عندما مر من أمامي طفل لم أسل من هو، بل لويت عليه وحبيته والتقطت معه صورة!
للعارفين أقول، «انقطع نياطي» وأنا أردد بأن الماضي والمستقبل يجتمعان في الحاضر، أحدهما أتى أُكله والتالي قيد التصميم.
والنياط في فصيح اللغة هو عِرقٌ غليظٌ ممتدٌّ من الرِّئتين ومتّصل بالقلب..وهذه هي رمستنا!