تعجب مما يظهر لك من مقرفات هذا الوقت الذي سهّل على الناس التواصل والاتصال، والظهور العلني المفاجئ، حتى أصبح كل واحد ممكن أن يفتي أو يدلو بدلوه في كل حديث، وفي كل شؤونه وشجونه، بحيث لا تفوته شاردة أو واردة، فتجد الواحد متشعب الاختصاصات، متعدد المواهب، يمكن أن يتحدث عن «كوفيد - 19»، وكأنه خبير مخبري، وأحد جهابذة علم البيولوجيا، أما القولون فلا واحد لا يفهم أعراضه وسبب انتفاخاته، وطرق علاجه الدوائي، الطبي أو من الطب البديل، أما المتخصصات في الجراحات التجميلية فهن كثر، والمعالجون النفسيون، ومدربو فن الحياة، فهؤلاء في كل مكان تتعثر بهم في كل الدروب، وكأنها صنعة من لا صنعة له، كل المفتين والمحللين وصانعي المحتوى، كل محتواهم مصدره الإنترنت، والكتب المترجمة والأكثر مبيعاً - على حد رأي المكتبات التجارية - لا هدف لهم إلا حب الظهور، وحب التكسب إنْ سنحت لهم السانحة، وأصبح لهم ذلك الحضور، و«الليكات» المشتراة، والحسابات الوهمية المباعة، وآخر واحد من هؤلاء ظهر مؤخراً، مدعياً الحديث عن العرب وأصلهم، وهو بالتأكيد لم يقرأ، وحتى لم يعرف المؤرخ العراقي «جواد علي» وكتابه «المفصل في تاريخ العرب قبل الإسلام»، لأنه ببساطة من 8 مجلدات ضخمة، بعيدة المنال عن الأخ أبو رأس كبير وفارغ، وهو أكبر من اليقطين بكل يقين، يحصر العرب بالخليج، وهو لا يختلف عن ذلك المباهي بفينيقيته أو بفرعونيته أو بأمازيغيته أو بآشوريته، وتبرأه من عربيته وعروبته، فقط ليسجل نقطة لصالحه في الحديث الذي لا يعتمد على أساس أو قراءات عميقة أو ذلك الوعي المعرفي، كل رأسماله رأس يلمع في قمته المكسوة بالشعر، والمحلق أطرافه، وعلى فكره هذا يسمى في العربية التي لا يعرفها صاحبنا الذي يتحدث عن تاريخ العرب بالقَزَع، وهو منهي عنه في الإسلام.
العرب باختصار، مثلهم مثل شعوب الأرض أثروا وتأثروا بالهجرات الإنسانية عبر التاريخ والمسيرة الإنسانية، اختلطوا وخالطوا الشعوب الأخرى المحاذية والبعيدة أيام الفتوحات والهجرات وممارسة التجارة، ناقلين العربية والدين الإسلامي فيما بعد، ولغتهم العربية وكتاباتها مرت بالظروف نفسها مثل ناسها، وتطورت الخطوط والنقوش حتى جاء فقهاء اللغة والنحاة وسنّوا طرقاً للقواعد والإعراب والحروف وتنقيطها لكي لا يحدث اللحن والغلط واللبس اللغوي عند الشعوب الأخرى ممن خالطوا واختلطوا بالعرب، وصارت لهم حضارة مشتركة، لكن المهم في كل هذه الحكاية أنهم عاشوا وما زالوا، وعاشت لغتهم وما زالت، صنعوا فرقاً في الحضارة الإنسانية حين كان يوزن كتاب المترجم وزنه ذهباً، وحين كانت دار الحكمة مكتبة المعارف والتراجم، ونقل كتب الحضارات المختلفة في عصور الحضارة العربية والإسلامية الذهبية، الحديث ليس عن العرب البائدة والعرب العاربة والعرب المستعربة، والعدنانيين والقحطانيين، فلهذا حديث يطول كليل أمرؤ القيس، ملك شعراء العربية.
هؤلاء الذين يتنطعون بالمعرفة، ويضللون الآخرين، مثلهم مثل الذي يعتقد بقصة «شرم برم.. والزمان ترللي» معتقداً أنها لا معنى لها، وأنها من كلام السوقة من الناس، ولا تعني إلا التهكم، والحقيقة أنه بيت شعر، يقول:
إذا لم تكن لي والزمان شر مبرم  ***  فلا خير فيك والزمان تراءى لي
وقد ذكر ذلك في كتاب «المستطرف في كل فن مستظرف» لشهاب الدين الأبشيهي، وكانت العرب في حديثها تركب وتضم بعض الكلمات للتيسير اللفظي، أي تدمج بعض الحروف لموسقة اللغة، مثل «شرم برم»، ومعناها الأصلي «شر مبرم»، أي بمعنى شر مؤكد وواقع لا محالة، أما «ترللي»، فأصلها «تراءى لي»، أي بمعنى ظهر، وتيسر، وطاوع.. ليت أبو رأس قَزَع يفهم العربية لغة العرب الأشاوس، ولا يحصرهم بأنهم أهل إبل ووبر، بل هم أهل تحضر ومدر، غيّروا وجه التاريخ حين أرادوا!