كم صدحت تلك الأغنية في مسجلات الأشرطة في سيارتنا القديمة الـ «جي تي، وزد إكس، وآر إكس 7»، أيام «الكشيش، وتصييح الويلات والمغازل»! مثلما كانت تتردد في الإذاعات والتلفزيونات والأعراس والليالي الملاح، والذي كان يقوم بأدائها شاب نحيل أسمر، ذو شعر طويل يصل لكتفيه، يومها كان مغامراً، جاء من المكلا أو حضرموت، واستقر في ربوع أبوظبي في بداية السبعينيات، وظل يتنقل في بلدان الخليج يحيي السهرات والغناء في الأفراح والمناسبات، كان «ترند» على قولة هذه الأيام، ذلك الشاب كان اسمه «علي أبوبكر العطّاس» والذي سيختصره الناس بالعطّاس، وسيحصرونه في أغنية» ألا يا طير يا الأخضر، وين بتبات الليلة»، أتذكره وهو يرتدي تلك الكندورة الضيقة، والمزركشة أطرافها، موضة تلك السنين، وسيارته الـ «سيليكا» الصغيرة، وسكنه في الحي القريب من نادي الوحدة الآن، كان يصول ويجول بحكم العمر النزق والشهرة، وكم تعثر ووقف! وكم سقط وخرج منها! وكم ضاقت به الدنيا، وكم عادت إليه! كان مغامراً صوب الحياة وألوانها.
بالتأكيد قصته غير عادية، وطبيعته المغامرة، وحب التنقل والانتقال كان شيئاً متوارثاً في أهل الجنوب، واليمنيين عموماً، لم يستقر على حال، وتخالفت عليه الأحوال، وحين كبرت المدينة، لم تستوعبه، وهو الذي كان يريد ذلك الطير الأخضر، ويريد أن يعرف أين ستكون ليلته، وعلى أي غصن مبيته، كما هي حال أغنيته التي بقيت ساكنة في قاع الذاكرة الطفولية، فجأة غاب العطاّس، ولا ندري أين استقر به الهوى والنوى؟ هل غاب مع التقلبات والانقلابات في بلده؟ هل اختار عاصمة فنية لتستوعب موهبته التي لم يصنها كما ينبغي لفنان واعد، ذاهباً في غيّ الأشياء، واشتهاءات اللحظة؟ أم أن الحياة قست عليه من جديد، وأسلمته إلى ركن صغير شبه مظلم فيها، غاب العطّاس وغابت أغانيه، والطير الأخضر ضل ظلاله، ورضي بالمبيت على إيقاع سنوات وقته القديم، وذلك الدان الموغل في تربة التاريخ وغبرتها.
مضت الحياة، وتغيرت الدنيا، وتبدل الناس، وبقي العطّاس يطل من خلال أمسيات للجالية اليمنية في المهاجر المختلفة، يشارك في أفراح أهاليه الذين كانوا يحبون الدان العدني والغناء الصنعاني واللون الحضرمي، وينتشون به في لياليهم، ويتوجون به نجاحاتهم في طرق الحياة المختلفة، وجلهم يتذكرون فيه الوطن.. حين كان اليمن السعيد.
مع بداية الألفية الجديدة تشاغل الناس وتباعدوا رغم ما قرّب إليهم المسافات، وأوصلهم بالمحب والحبيب، وغدت ثورة الاتصالات والمواصلات أمراً قاسياً على الجميع من كثرة اللهاث، ومحاولة مسك الأشياء لكي لا تفرط من بين الأصابع، ومحاولة التوازن في عالم هز الثوابت، ورجرج الأعمدة الثقال، فكيف لطير مثل طير العطّاس الأخضر أن يذكر، وتذكر سنينه، ويحضر في هذا المشهد، وتجليات المحضر؟!
أمس.. كنت مع أصدقاء جميلين من زمن جميل في عاصمتنا الجميلة، وعنّ علينا العطّاس، وشيء من أغانيه، وأيام ربما تقاسم البعض منا حلوها ومُرّها في تلك المدينة التي نهضت من عطش رملها، فاتفقوا على أن العطّاس قد مات منذ زمان طويل، يربو على العشرين بل يزيد، فقلنا: ليسعفنا العم «غوغل»، وكم كانت المفاجأة، رغم صغر الأخبار المتناتفة عنه، وعن نشاطه، أنه كان حيّاً، لما قبل سنة ويزيد حين ألم به مرض عضال أقعده، وأنه لفظ أنفاسه الأخيرة يوم الأربعاء في 20 يناير 2021 في القاهرة، وبحثنا عن صورته الجديدة بعد ذلك الفراق البصري لما يزيد عن الثلاثين والأربعين عاماً من أعمارنا، وكدنا ألّا نعرف الرجل، ولا أنه كان هنا يوماً، بسيارته الـ «سيليكا»، فقط ما بقي منه، من ذلك الزمن، أنه ظل محتفظاً بشعره الأسود الطويل الذي كان يميزه منذ شبابه، وكأن ليس وحده «شمشون» من تكمن قوته في شعره، بل العطّاس أيضاً، الذي لم يبيّض شعره شيباً رغم أن طائره الأخضر ودّعه منذ أيامه الأولى البيضاء، واختار أن يبيت على غصن شجرة في جبل الكور.