يأتون بصمت ويذهبون بصمت، ولا يبقى غير عطرهم، وتلك المرايا التي حدثتهم عن جفول الآخرين، وتلك الأزقة التي لم تزل تحفظ الود، للوزة أرخت سدولاً تحتسي من دمع الفراق، والعصافير تنشد للزمن ما طرأ، وما أومأت به الغيمة عندما شدوا الرحال بلا زاد ولا زوادة سوى قماشة الأبيض التي لفت جسده، وأخفت أمنيات لم تكد تبرز للوجود.
يذهبون ويتركون الدمعة جامدة في المقلتين، يتركون اللوعة خافقة في المهج، كم هي اللحظات عصيبة عندما النعش سفينة تأبى إلا أن تذهب إلى محيطٍ أمواجُه ركامٌ من تراب، وأصلاب حجر تشهد على أن الراحلين إلى الغياب أولئك الذين حفروا في ضمير الوجود ربقة الفناء هم أولئك الذين استسلموا للموت، بعد أن أصبحت الحياة خدعة بصرية، وأن العيون التي كانت تنظر إلى الأفق البعيد أغمضت الجفنين، واستعاضت بالعتمة رؤية إلى اللاشيء يذهبون بصمت ولا صوت إلا ذلك الصمت المهيب يخيم على جسد سجي مخفوراً بكافور ومسك الخاتمة، ولتبقى القرية المسكونة بغبن وحزن، تحثو التراب على ذاكرة، ليبقى المشهد الأليم عيناً تطل على منازل الراحلين، وتغسل معطف الأيام بماء العيون، ولا شيء هنا غير الصمت ينسج صورة أيام وأحلام، كانت في يوم ما مثل زهرات برية تخفق فرحاً،
واليوم أمست وريقات تذروها رياح النسيان، وتقضم بتلاتها أنياب الأسى.
 کم هي الصور تبدو شائهة عندما لا يكون غير الصمت، وحيداً يمسك طبشورة الفراغ ويكتب على سبورة الذاكرة، ماذا يمكن للمشاعر أن تبدئ، وتعيد، طالما انطفأت مصابيح الزمن، وطوت الأيام عباءتها، وأغلقت المنازل أبوابها، والغبار سكن نوافذها، وبعض حمامات تحن إلى حبة قمح ذرتها يد كانت هنا بالأمس، وكان، وكان، واليوم لا مكان للذي كان سوى ظلمة في قبر يعصر وجده قلوب ما فتئت تنيخ بغير قدرتها على الصبر، وتترجل حيث يكمن البيت العتيق، حيث تنام الصور، وذكريات محفورة في المكان، كأنها الأياقين في كتاب الزمان، كأنها السرد المبجل في ضمير الأنبياء كأنها الحلم البهي في عيون الأبرياء.
يأتون بصمت، ويذهبون بصمت، ولكن يبقى الضجيج في ضمير من عشقوا ومن حفظوا بريق العيون التي كانت في وحشة الدنيا قناديل ضوء، وأجنة فرح.