للصباح أن ينشر فضته، وللمطر أن يطرق النوافذ، سوف أرقد دافئة في سريري وأرقبه، له أن يتباهى بهطوله في بهو الحديقة وأن يختال مخادعاً زجاج نافذتي، ولي أن أنتقيه مراوغة سطوعه الباذخ..!.
للمطر أن ينسكب ساحراً وغامضاً وكرستالياً، يصل السماء بالتراب، الروح بالوجود، الأشياء بحضورها، الذاكرة بالتيقظ.. ثمة نشيج ينهض من قيعان الروح حين ينهمر المطر، ثمة صور وغيوم وكائنات، أزهار وعشب وأشياء منسية في البعيد، أحباء مروا، أقاموا وغادروا، واستقروا في العراء الشاسع للذاكرة. العراء الشفيف الباهر، كأنهم أطياف وخيالات عبرت أفقاً وتناثرت وتلألأت في السديم!، أية انفعالات مبهمة واضطراب لذيذ يوقظه المطر، حين يسقط هادراً أو رذاذاً، أية مشاعر غائمة حيناً وشفيفة حيناً، أي وجدٍ ومسرات وألم في الروح ينهض حين البعيد لا يطال، وحين المنتظر لا يجيء، حين الرغبات تسير إلى انطفائها كأوراق مصفرة في خريف الصبر، أية عذوبة ينهض بها المطر، أي نشيد ونشيج حين يطرق نوافذ النسيان، عذوبة مرت بنا في ومضة حب، في غيبوبة شوق، شيء يشبه الغياب، صور تنبعث، مخاوف وضحكات، دموع توشك، وصلابة كعروق الماس..!.
المطر: (م) يلاد و(ط) وفان و(ر) وح، أي تكوين باذخ لأحرف المطر، أية حركة وإيقاع، ألفة وتناقضات، عصيان وهدوء، اندفاعات ولودة، هدأة الأشياء وضجتها في ثراء الطين ونشوة الجذور حين يسقط المطر.
الماء في الأحواض والغدران والأنابيب لا يشبه ماء المطر منسكباً كغلالة ضافية، منسكباً في حنو بالغ كأنما هو عاشق يسري لموعده، مرتعشاً ومائياً، الأنفاس دافئة تتبع الخطى، كأن الكون كله يتجمع في قطراته، كأنه الشوق حين ينهض بالذاكرة إلى الأحبة، ناسياً حين ينهمر المطر في نشوة الهطول الطرقات الترابية والسابلة، كاشفاً خديعة الرفاه، لاهياً وناسياً أننا بعد لم نتعلم كيف نحتفي به، كيف نحيله إلى جميل ننتظره، حين يحيلنا إلى الوحول.. ناسياً أن طرقاتنا بقشرة الإسفلت المخادعة لم تعدّ لاستقباله.. ناسياً أننا ما زلنا نتخبط في طرقات الأماني، مثلما تتخبط أقدامنا في الطرقات الموحلة حين هطوله الغزير، وحدها الأشجار تبتهج حين يوعدها المطر بالخصب والثمر، والعشب والزهور والأغصان تتمايل، والصلصال الذي جففته سياط الشمس في فصول الصيف، يضحك مبتهجاً بهطول المطر..!.
مبتهجة أنا بمطر يرشني بفرح يخصب أشجاري، أرقب ما حولي وما بداخل الروح وخارج المرئي، الوهج الباذخ وارتعاشات الغصون، ورفيف أجنحة الفراشات وفتنة ألوانها، وتغريد العصافير، وأسمع نهنهة الجذو رجذلى، فأرقب المطر والإشراق، وأنهض متسللة على أطراف أحلامي، وأتساءل: كيف تتجمع السحب في السماء، وتسقط مطراً يخصب قحل التراب؟ فتنهض ذاكرة التأمل وتعزف لي: الغيوم قطن السماء كلما أجهش البحر، ضمدت حزنهُ ومضت في البكاء..!.