«دوبي جات» هو غاسل الألبسة باللغة الهندية، هذا ما يمكن إدراكه بعد متابعة الدقائق الأولى من الفيلم الذي يحمل الاسم نفسه، وهو من إخراج كيراتي راو، التي تولت كتابة النص أيضاً، في حين لعب زوجها، أمير خان، دور البطولة، مجسداً شخصية أرون، الفنان التشكيلي، الذي يمضي أغلب وقته متأملاً. بموازاة أرون تقف شاي الفتاة التي لفرط بساطتها تحولت لغزاً، وبينهما موني، غاسل الألبسة، الطامح إلى النجومية. أيضا ثمة ياسمين إمرأة غامضة، تبنثق من أشرطة مصورة منسية. علي العزير (أبوظبي) - مهنة الغسيل في الهند كغيرها في سائر أنحاء الأرض، ثمة مساحة واسعة على مجرى نهر الغانج تجري فوقها عمليات تنظيف لكميات هائلة من الثياب، بسهولة يمكن اعتبار المنظر المثير للدهشة بمثابة إضافة نوعية للديكور الطبيعي الفائق الثراء، وقد أدرجه الفيلم كمفردة مميزة في سياق لغة بصرية ممتعة، تغوي بالإصغاء اليها. الفانتازيا العفوية التي تزخر بها مدينة بومباي تفيض عن حاجة أي عمل سينمائي: البيوت المتراصة على تهالك، الدروب الضيقة والمؤدية دوماً إلى مطارح تمعن مع الوقت غرابة، كل ذلك وغيره يبدو كما لو أنه موجود ليقول للمشاهد: هنا لا تحتاج القصص إلى ذرائع لتبدأ، ولا لكي تنتهي أيضاً. معشوقة المطر المكان سيد الموقف في فيلم راو، تتسم معالمه بكثير من البؤس الذي لم تستسلم له الحياة، فنراها تستمر في المعاندة، تقترح بدائل على هيئة أحلام وطموحات تبقى ضرورية للبقاء، وإن افتقدت الحس الواقعي، أما القاطنون فأكثر ما يميزهم عيون تضج بالكثير من التفاؤل، وتعكس دواخل متعالية على الألم بالرغم من حضوره المقيم. لا يمكن التغاضي عن ثنائية فائقة الأثر منذ المشاهد الأولى: إيحاء لوني متفجر يتكئ على بيئة عمرانية شديدة الشحوب، هي لعبة إبداعية تجعل المشاهد على تماس متواصل مع الإبهار. وهي أيضاً بومباي المدينة التي يعشقها المطر، وبقدر ما يكون أليفاً إذ يتساقط من السماء بغزارة، يصير ثقيل الظل حين يتسلل من أسطح المنازل نحو مخادع الناس. سطوة الجغرافيا ثمة أيضاً تعايش يشبه المعجزة بين ثنائيات لم يُعرف عنها التآلف يوماً: الألم والأمل، الطموح واليأس، الحزن والفرح، الضعف والثقة، هنا أناس يخاتلون الحياة، يقفزون بفرح خلبي فوق حواجز اللحظة ليصنعوا زمناً من أحلام معاندة، أناس لا تملك إلا أن تشعر حيالهم بود خفي كما لو أنهم ينبثقون فجأة من أحد خيالاتك القديمة. المتابع للفيلم سيخرج منه باستنتاج يصير مؤكداً بعد أن كان في عهدة الظنون يوماً: الجغرافيا تساهم في صياغة ملامح البشر الذين ينتمون إليها، والمكان يتسلل إلى وجوه قاطنيه، يدمغهم بسماته الخاصة، فتصير العيون بحراً، والجباه دروباً متعرجة، أما الشفاه فهي توحي، بين إنفراجات أطرافها عن الكلام، بذلك التناوب الأزلي بين الظل والضوء، بين الليل والنهار، وبين الصحو والمطر. تكثيف لوني تسلط كيراتي راو كاميراتها على أربعة شخصيات قادتهم الدروب المختلفة نحو بومباي، أرون «أمير خان» الرسام التشكيلي الخارج من علاقة زوجية فاشلة، وشاي «مونيكا دوجرا» المصرفية الأميركية من أصل هندي، التي تعشق التصوير الفوتوغرافي، إضافة إلى ياسمين «كريتي مولهوترا» وهي تدخل إلى الفيلم عبر ثلاثة أشرطة فيديو أرسلتهم إلى شقيقها، وعثر عليهم أرون لدى استئجاره شقته جديدة، كذلك ثمة موني الـ»دوبي جات»، أي غاسل الملابس، الطامح للعمل في التمثيل، ويلعب دوره الممثل برايتك بابار. هذا الانحياز اللوني والصوري الذي تحرص المخرجة على تقديم فيلمها من خلاله، والذي جعلها تقرن شخصياتها الرئيسية بالصورة واللوحة، لابد له من دلالة ما، قد تجد تفسيرها في إشارة ملغزة نحو كثافة حضور مثقلة يفترضها المكان، فتجري الاستعاضة عنه بالصورة التي تختزله إلى بديل عنه أكثر خفة. الجميع هنا يحبون بومباي كتشكيل بصري موح، لكن الجميع أيضاً يعانون من تداعيات وجودها المادي. اعتذار جارح يقيم أرون معرضاً للوحاته الفنية، وتحضره شاي. سريعاً تتوطد العلاقة بين القادمة من نيويورك إلى بلدها الأصلي وبين فنان سريع الإنفعال عاطفياً، باضطراد لافت يتطور الموقف نحو حميمية مباغتة، وبعد أن تأخذنا الشمس المتصاعد نورها نحو نهار جديد، يكون علينا أن نصغي لأرون في منزله وهو يعتذر من شاي لإقدامه على فعل مناف للحشمة تحت تأثير الخمر.. بدا الإعتذار أقرب إلى خطأ قاتل بالنسبة للفتاة المتشربة بعادات الغرب، راحت ترجوه أن لا يكمل اعتذاره حتى لا تفقد اللحظات الحميمة معناها، وكان أن ذهب بموقفه إلى النهاية فغادرته حانقة. خطأ محمود بمحاذاة الموقف الذي كان مرشحاً لأن يكون حدثاً عاطفياً، وحوله أرون إلى حادث مؤسف، يتمخض المشهد عن موني، غاسل الثياب الذي يمتلكه هوس التمثيل، هي صدفة قادته نحو شاي، لكنَّ الخطأ الذي ارتكبه باتلاف إحدى قطع ملابسها سيجعلها تصاب بالغضب، وبعد أن تفعل تجد نفسها مدعوة للتعويض على الفتى الذي لا يملك فرصة الرد عليها، كان تعويضها أكثر من استسماح عابر، هي عرضت عليه صداقة لا تبدو متكافئة، ولم يكن أمامه من خيار سوى القبول. تدريجياً كان موني ينجرف عاطفياً نحو شاي، فيما هي لاتزال منجذبة إلى أرون، وقد بلغت حدة اهتمامها بأمره أن استنطقت موني عن مكان سكنه، لتقوم بالتجسس على تحركاته برفقة أحد أصدقائها، كل ذلك كان يحيط به بينما أرون منشغل بمتابعة الرسائل التي أرسلتها ياسمين، ساكنة البيت السابقة إلى شقيقها، الأشرطة ظلت في المنزل لسبب بقي غامضاً حتى اللحظة الأخيرة، حيث كان لنا أن نكتشف مع أرون أنها أقدمت على الانتحار بعد انتهائها من تصوير آخر رسالة. في القمة استهدافات متنوعة تناولها الفيلم، كانت جميعها عالية السوية وفق التصنيف المشهدي، والأرجح أن المشهد الأخير سيبقى عالقاً في الذاكرة طويلاً، لقاء بدا كما لو أنه الأخير بين موني العاشق وبين شاي التي كانت مشاعرها تنحو باتجاه أرون، سألته ما إذا كان يعرف عنوان السكن الجديد لأرون فأنكر ذلك، ثم ألحق كلامه بالإشارة إلى احتمال أن يكون قد غادر إلى أستراليا ليعيد الارتباط بزوجته السابقة، غادرت شاي على شيء من الصدمة، تدريجياً تخلى موني عن أنانية العشاق، ثمَّ لحق بسيارة شاي وسط كم هائل من السيارات، معرضاً نفسه لمخاطر قاتلة، وفي النهاية تمكن من الوصول إليها ليعطيها قصاصة تحمل العنوان الذي طلبته. حين أدرك شاي بدا موني كما لو أنه بلغ قمة الحب الذي يمكن لكائن آدمي أن يصلها. بعد وثائقي بين شاي وأرون وموني كان على الكاميرا أن تشق طريقها نحو مناخات حياتية متعددة تغلق بومباي أبوابها عليها، تجارة الممنوعات، صراعات العصابات، وسائل العمل البدائية، وغير ذلك كثير مما يمنح الفيلم هوية وثائقية إلى جانب البعد الدرامي. وقد اعتمدت المخرجة ذريعة مقنعة تبرير الخلفية المعلوماتية التي تمخض عنها عملها، حيث أسندت، من خلال السيناريو، إلى شاي مهمة انجاز تقرير مصور عن نوعية الأعمال التي يمارسها سكان المدينة، هكذا أمكنا أن نزور برفقتها أنماطاً متعددة من الأسواق الشعبية، ونطلع على أساليب التسويق، وطرق التعامل بين صغار التجار وزبائنهم. وقد حصل ذلك كله في أماكنه الحقيقية وبتجسيد حقيقي، فقد تضمن أحد المشاهد حواراً مع أحد التجار الذي يرفع لوحة إعلانية باللغة العربية فوق محله. وقد أصغينا للرجل يروي حكاية قدوم أجداده الى الهند منذ قرون، ليستقروا فيها، موضحاً أنه يمثل ابناء الجيل الخامس المتحدر من أولئك الأجداد.