اختلفت فكرة الموت، والعودة بعده لدى الحضارات القديمة على مدى التاريخ الإنساني، من التناسخ عند الهندوسية والبوذية، والاعتراف بالموت كحتمية فظة عند الرواقيين والأبيقوريين، والماديين، واللاأدريين، ثم أديان الخلاص اليهودية، والمسيحية، والإسلامية.
في جميع الأحوال نحن نعيش تجربة الموت نفسها، والموت هو موضوع قلق حتى لدى أولئك الذين يؤمنون بالانبعاث وبالحياة بعد الموت. هذه هي المتلازمة الأولى لدى البشر في حضورها الأزلي مقابل الحياة، فلولا وجود الحياة لما فكر الإنسان بالموت، كما هي الحال لولا وجود الأسْوَد، لما عرف الإنسان شيئاً اسمه الأبيض، ولما فكر في الجميل لولا وجود القبيح، فهي التناقضات التي تجعل الأهمية للأشياء، كما تستبقيها في الوعي كقطبي المغناطيس، فعلى الرغم من خوف الإنسان من الموت، ونبذه القبيح، فإن وجود الموت هو الذي جعل من الحياة كقطب آخر نقيض الفناء، يسعى إليه الإنسان، ويقاوم من أجل أن يكون حياً. ففي وجود القبيح يصبح الجميل معنى فسيولوجياً، وسيكولوجياً.
وعلى كل حال فإن رهبة الموت تجعل منه في الوعي شيئاً من المثول الواقعي الذي يمنح نوعاً من التسامي تجاه الشيء المبغوض والذي هو الموت. وكما يقول أوشو: «إن الموت هو عودة إلى المصدر، كما يغرق الإنسان في النوم، الموت نوم عظيم واستراحة كبيرة بعد حياة طويلة، إنه يجددك ويجعلك نشيطاً، ويبعثك من جديد».
وكي يعلي الإنسان من شأنه، ويتسامى فوق الموت كان لابد من استحضار الحيلة الدفاعية كما أوردها فرويد في دراسته للأحلام، فالإنسان الذي وجد نفسه ضئيلاً أمام الموت، كان لابد وأن يخلد إلى الشعور بالأنفة، ويتماهى مع خالق الموت والحياة،
فيقول فلاسفة الشرق المدنفين بالأبدية: «إن الله خلقك أنت، وأنت خلقت العالم». في هذه المتتالية الزمنية في الخلق يضع الإنسان لنفسه مقعداً عملاقاً على الأرض، كما هو عرش الله في السماء، وبذلك أوجد الإنسان الحل، وإن يكن حل نفسي على أقل تقدير ليواجه معضلته مع الوجود، وليكرّس مبدأ الأبدية المتخيلة، ليمسك بقميص الحياة ولو من دبر، فهو في هذه الحالة استطاع أن يجلي عن كاهله كماً هائلاً من صدأ الخوف من الموت، ولأن الحيل الدفاعية ما هي إلا وسائل لكف الضرر النفسي، فإن الخوف الموضوعي ظل يمارس سلطته العنيفة التي ما فتأت أن تتجسد في صور واقعية عبّرت عن قوتها الأسطورية التي لا تقاوم. ومع حاجة الإنسان الماسة، والمرتبطة في وجوده، بهذه التجسدات الموضوعية، فإنه أي الإنسان كان على موعد مع الخيال الذي كان المركب الواسع الذي حمل كل تهيؤات الإنسان، وتصوراته، حول ما يحيط به من جغرافية هائلة ومرعبة، فعندما ينظر الإنسان إلى الصحراء، ويتأمل مكوّناتها المهيبة، ينتابه الشعور بالضآلة حيال ما يكتنف الصحراء من هالة فظيعة، فهي تضم الأشجار العملاقة، وبين كثبان هذه الصحراء تختبئ المخلوقات المتوحشة، فماذا كان بإمكان الإنسان الضئيل أن يفعل حتى يتوخى الحذر من الفناء؟ بدأ بصناعة أدوات الحماية التي توفر له سبل البقاء، ولكن أمام الكوارث الطبيعية الكبرى لم يصمد خيال الإنسان، بل خنع متلاشياً خلف تصوراته الوهمية، فاخترع الخرافة.
«بابا درياه» الإماراتي
بابا درياه كلمة أعجمية من شقين، باب وتعني أبو، درياه وتعني البحر، أي أنه أبو البحر. ويروي أهل البحر أن بابا درياه كائن من الجن، كان يتسلل إلى مراكبهم في الفترة بين صلاة العشاء، وأذان الفجر، ويخطف أحد البحارة ليأكله أو يقتله. وكان يعبث في السفينة ليتلفها فتغرق، ولذلك كانوا يجعلون في كل سفينة فرقة من الحراسات، بها اثنان أو ثلاثة فإذا سمع الحراس صوت بابا درياه تصايحوا (هاتوا الميشارة والجدوم)، أي «هاتوا المنشار والقدوم»، وإذا سمعهم هرب، ويذكرون أنه مخفي الملامح، لأنه يظهر دائماً في الظلام الدامس، ويكون على هيئة رجل قوي وضخم. أما الرواية الثانية فتقول أنه كائن خرافي يعيش في البحر، وقيل إنه كان يظهر على شكل إنسان مخيف، ويسمعون صياحه في البحر وكأنه غريق، فإذا أنقذوه سرق طعامهم، وربما أتلف السفينة.
وما بين (خطاف رفاي) و(بابا درياه) تخبئ الذاكرة الشعبية الإماراتية خفايا هذه الأسطورة المتخيلة، والتاريخ مملوء بغيرها من الأساطير التي تتدحرج ما بين السحر والخرافة والمعتقد الذي ترافقه هذه الصور الوهمية، وتحتمي هذه المتجليات الذهنية تحت ملاءة سميكة، بحيث لا يمكن الكشف عن أصلها، وسرها، ومضمونها. كما أنها لا تبعد كثيراً عن الفن، والإبداع الذي هو وليد المخيلة الفتية التي تكمن في وجدان كل إنسان، وكل شعب في هذه الدنيا له شكل من أشكال الفن الذي يميزه عن شعوب العالم، بحكم ما للبيئة، والثقافة، والتربية من أثر عميق في الوجدان البشري.
وإذا كان البحر قد شكّل صورة من صور الأنا العليا في قلب الفكرة الإنسانية في الإمارات، وسكن في الوجدان ليس كمصدر رزق فحسب، بل أيضاً كمطهر للذات من عرق الوحدة الوجودية، وكذلك كمقابل للقوة التي تتحراها الأنا البشرية منذ عصر الجمع والالتقاط وحتى يومنا هذا، لكون الإحساس الذي ينتاب الإنسان، وهو يرى نفسه ضئيلاً أمام عملقة الطبيعة، يجعله يبحث عن قوة مرادفة تعيد له توازنه النفسي، وتحقق له القيمة الذاتية حيال هذا الكون الرهيب، والذي يقابل الإنسان بعدائية، وغضب لا يستطيع الإنسان بمفرده، ولا حتى في جماعات أن يواجه عنف الطبيعة، وهذا ما جعل فيلسوفاً مثل شوبنهور، يتكئ على فكرة قوة الإرادة، في مواجهة صلابة الطبيعة، وعلى الرغم من تشاؤمية هذه الفلسفة، تجاه الطبيعة، والتي كان من الأجدر بالفيلسوف أن يمنح العقل فرصة التصالح مع الطبيعة، لاستثمار ما في هذه الطبيعة من جمال وعطاء، لا يمكن أن تختزله لحظة ردة فعل تجاه ظاهرة من الظواهر التي تأتي وتذهب وتبقى الطبيعة أمنا الرَؤُوم، ولكن عندما ينظر المرء إلى الطبيعة، ككائن بمخلب، من دون أن ينظر إليها كمحيط يطوّق البشرية، بسواعد الحنان، ولماذا لا ننظر إلى الوردة التي تعبق وجداننا بالجمال، والعبير؟ لماذا لا نتأمل أغصان الشجرة، وهي ترخي خصلات الحياة محملة بأمل الوجود، وتمنح للحلم أفقاً لا يخبو وميضه؟ لماذا لا ننظر إلى النهر وهو ذاهب إلى الحقل، كي يروي جذور النخل، والتين، والزيتون؟ لماذا لا ننظر إلى البحر نفسه، هذا الكائن العملاق المحمّل بأسفار البهجة، وما تدخره أعماقه من در، ومن أشواق الأحداق المفتوحة على عالم النشوء والارتقاء، عندما تأخذ النسمات عطر أمرأة تتحرى الهلال، وعودة المسافر إلى كنف الدفء، ونشوة اللقاء النبيل.
وعند دخول غرفة هذه الحكاية الأسطورية الخرافية نجدها عرفت بأسماء، ووصفت بأوصاف. وكلمة (الخبابا) المعروفة في الكويت والبحرين ومناطق أخرى في الخليج العربي، بحث العديد في معناها، منهم من قال إنها إله الشر عند الفراعنة، ومنهم من قال بأنه إله الشر عند اليونان، ونشر بحث طويل عن الخبابا، وقيل إنها مخلوق خرافي يوجد في القارة الهندية (فالح حنظل). والخبابا أو الخمبابا بمعنى واحد، أول ما ذكرت في ملحمة جلجامش 4000 قبل الميلاد تقريباً، ويتضح إنها إله يحمي الغابات، أو مجمعات الأشجار، وقد استطاع جلجامش التخلص منها حتى تمكن من أخذ شجرة إلى بلده، وبابا درياه، أو الخمبابا رجل طويل أو عفريت يخطف الأطفال يقول فالح حنظل «الطنطل كائن من الأشباح طويل القامة، عظيم الجسم».
أسطورة الطنطل
وروى القناعي في كتاب «صفحات من تاريخ الكويت» عن خرافات أهل الكويت ومنها، الطنطل وهو يوصف بسواد الجسم، بحيث إذا مشى يسمع له صوت، وهو يتمثل للسارين في الليل ويلعب معهم، ويحاول أن يستفرد بهم، حتى يخطف ما لديهم من غرض ثم يهرب.
وفي بغداد كان العوام يزعمون أن الطنطل يظهر ليلاً وبصفة إنسان هائل الجسم، عظيم الطول، عاري البدن، يقف في الأزقة ولم يعرف عنه أنه افترس الناس بل يخيفهم فقط، ويضحك ساخراً منهم إذا ارتعبوا خوفاً. وجاء في لسان العرب: الطمل هو الرجل الفاحش الذي لا يبالي مما يفعل، وما قيل عنه أو ما أتى به، والطمل أو الطمليل هو اللص، أو الفاسق، والطملال هو اللص أيضاً. والطمل، والطملال، والطملول، الفقير السيئ الحال، القشف، القبيح الهيئة، الأغبر وقيل هو العاري من الثياب، وأكثر ما يوصف به القانص. وربما حرفت العامة الأسماء السابقة الطمل، والطملال، والطمليل والطملول إلى الطنطل، وهو في الأصل اللص الفاسق القبيح العاري أو الرجل الفاحش ثم جعلت العامة من هذا الشخص الخرافي عفريتاً، وبدأت تخيف به الأطفال. ويقال بأنه جان يظهر على شكل رجل في المقابر أو النخيل، وهو كثيراً ما يطلع للفلاحين عند حلول الليل وربما تشكل لهم بصور مختلفة، وقلد بعض الأصوات لكي يغوي أو يخدع الناس، ويلفظ أحياناً (أسعلوه) و(لسعلوي) وهو مخلوق من المتشيطنة، وزعمت العامة أنه يخطف الأطفال.
وجاء في معجم (حنظل) السلع وكذا يسمى في الإمارات، ويذكر القناعي في كتاب «تاريخ الكويت» أنه بصفة عبد نوبي طويل، وله أنياب طويلة، يختطف الصغار ويأكلهم. وقد جرى سنة 1327 هجرية عند السواد الأعظم، فزع شديد من هذا السعلو، وسببه أنه غرق ولد في البحر ولم يره أحد، فشاع أن السعلو أكله. وفي أساطير أهل بغداد أن السعلو كانت تظهر في أزقة بغداد بعد العشاء وقد ارتدت ملابس النساء وغطت نفسها بالعباءة، فإذا شاهدت رجلاً أشارت إليه أن يلحقها، وإذا لحقها أخذته إلى مكان منزوٍ وافترسته.
أما أصل السعلو أو السعلوة فهي السِعْلاة التي وردت في الكتب والمعاجم العربية وهي مشهورة عند العرب، ولهم فيها أقوال كثيرة، ومنها ما قاله القزويني «السعلاة نوع من المتشيطنة مغايرة للغول، وأكثر ما تكون السعلاة في الغياض، وهي إذا ظفرت بإنسان تراقصه وتلعب معه»، وجاء في لسان العرب أن السِعْلاة أنثى الغول روعان. كان روعان بحاراً ماهراً، وفي الليل تخرج شخصيته. فكل شيء يبعث الخوف في النفس هو روع، كما أن العرب يطلقون كلمة روع على كل شيء مرعب ومخيف. وجاءت التسمية من أصل (الرَّوْعُ ) لكن الشائع هو ما اشتق من اسم الروع، وهو (روعان)، وهو كناية عن أنه مخيف لدرجة كبيرة. وتقول الرواية، كما يلقي بها فالح حنظل: «روعان عاش بشخصيتين مزدوجتين، متباينتين، من دون أن يكون لأي شخصية من الشخصيتين علاقة بالأخرى، فقد عاش روعان بشخصية الإنسان الاجتماعي الطبيعي بين أهله وأصدقائه، وجيرانه، وعاش بشخصية متوحشة بشكل بدائي مرعب». وكان روعان بحاراً متميزاً، عمل في كثير من سفن الغوص على اللؤلؤ، مع أشهر النواخذة، (الربابنة) وكان ماهراً مجيداً في مهنته، مجداً في عمله، مطيعاً للأوامر، منفذاً لها، مستقيماً في سلوكه، متفاهماً مع الآخرين. لكن برغم هذه الصفات الحسنة التي كان يتصف بها روعان، فإنه كان يعتري شخصيته شيء من الغموض، كان يتحاشى الاختلاط بالناس في الليل، وكانت تعتريه حالة من الكآبة والحزن المطبق في الليل، حتى إنه يرفض أن يقابل أحداً من الناس بعد غياب الشمس.
ويقول أحد الرواة: «إن روعان من الأفارقة الذين جيء بهم من شرق أفريقيا عام 1900 تقريباً، وكان عمره حين قدم إلى إحدى مدن الإمارات نحو 20 سنة أو يزيد قليلاً، وكان قوياً، وضخماً، ولم يكن يجيد اللغة العربية، إلا بعض المفردات البسيطة التي تعلمها من البحارة الذين جلبوه من أفريقيا، ثم ما لبث أن تعلم العربية، فقد كان ذكياً فطناً، لكن لهجته كانت تغلب عليها اللغة السواحلية»، ويذكر أنه حتى آخر أيام حياته، وهو في الخامسة والثمانين أو التسعين تقريباً، لم يكن يتقن العربية تمام الإتقان.
ويكمل الراوي في تلك السنة 1900 وفد إلينا مجموعة من الشبان قادمين من مناطق بعيدة من العالم، وكانوا شباباً أقوياء، ولكن ما أن نزل هؤلاء المدينة حتى انتشرت شائعة مفادها بأن وحشاً على هيئة رجل يخرج في بعض الليالي، ويتربص بالبحارة فيفتك بهم، فانتشر الهلع والخوف بين الناس، حتى إن حركة الملاحة والصيد والغوص كادت أن تشل البلاد. وبعد وقوع عدد من الضحايا الذين دفعوا حياتهم ثمناً لخروجهم طلباً للرزق، بدا الذعر يلف الناس، واستشرى الضيق بين الجميع من دون استثناء، فالقادم الجديد بات يهدد بقاءهم، فأما أن يقتلهم، أو يموتوا جوعاً، فاتفق الرجال على الخروج في جماعات، وألا يخرج أحد منفرداً، كما اتفقوا على أن يحملوا معهم أسلحة خفيفة.
وظل روعان لأكثر من خمس وثلاثين سنة يرعب الناس ويرهبهم، ويواسيهم، ويتمنى لهم الخير، وهو لا يعلم شيئاً عما يحدث بين الليل والنهار، ويسمع عن أعماله المرعبة من الناس.
كان الرجل قد خرج من بيته قبل الفجر، مولياً وجهه شطر البحر، حين شاهد عند الشاطئ حمارة، تروح وتجيء بهدوء، فعزم على أن يمتطيها. اقترب منها فوجدها تستجيب له ببساطة، فحمد الله وقال ليلة مباركة. وراح يصطاد السمك، إلا أنه بعد أن جمع من السمك الكثير استرعى انتباهه سمكة كبيرة، سارع محاولاً اصطيادها، ومن عجب ما رأى أنها تستجيب له. راح يمسح ذقنه ويقول: «غريبة، ليلة غريبة بالفعل». أراد العودة إلى البيت، لكنه فوجئ باختفاء الحمارة، فراح يبحث عنها من دون جدوى، واضطر إلى العودة ماشياً، حاملاً على ظهره السمكة التي ناء ظهره بحملها. وما أن اقترب من الشاطئ، حتى نشف دمه رعباً، وزاغت عيناه. لقد نزلت من على ظهره، وتحولت إلى رجل طويل جداً وهو يقول: «كما حملتك حملتني»، وراح يضحك حتى اختفى. يقول الحاج محمد علي بهذا الصدد وهو رجل كبير السن تجاوز الثمانين من عمره: «شخصياً لم أشهد بودرياه، ولم أسمع صوته، سواء أثناء ذهابي للبحر بمفردي أو مع البحارة، ومع ذلك كنت أخشاه، وأتقي شره بقراءة آية الكرسي، والمعوذتين، وقل هو الله أحد، فلم يكن ممكناً تجاهل ما كان يحكيه أبي وجدي عن سماعهما صوته وهم في عرض البحر». يضيف الحاج محمد علي: «كان جميع البحارة يخشون أبا درياه، نعم كنا في أيام الشباب وأنت تعرف شجاعة الشباب واستهتاره بالمخاطر، لا نصدق ما يروى عنه، ومع ذلك، كان أكثرنا متى خرج للبحر لا يبتعد كثيراً عن الشاطئ». (كتاب جعفر الديري).
بابا درياه خارج الوعي
بإمكاننا الآن أن نستعيد المقولة التي ذكرناها في الصفحات السابقة وهي: «عندما تعي الشيء تدركه، وعندما تدركه تحبه، وعندما تحبه، تكون أنت هو، وهو أنت، تكونان في الوجود واحداً». وبطبيعة الحال لم يكن بابا درياه في صلب الوعي لدى الناس، وبالتالي كان يأتي من الخارج بصورة مشوهة، هكذا أرادت الأنا أن تصوره وتقدمه للناس على أشكاله الغامضة، والمخيفة، لأسباب أنوية فجة، وغائية، وغرضية، كان الناس يحبون البحر، لأنه يطعمهم، ولأنه مصدر الرزق الوحيد لهم، ولكنهم كانوا يهابونه، لأنه يختزن في أعماقه من الأخطار ما يجعلهم يختزنون في ذاكرتهم مشاعر مزدوجة، الخوف في مقابل الحب، الإقدام في مقابل الأحجام، الدموع في مقابل الفرح، التعلق في مقابل التفكك، وكان إلى جانب ما للبحر من جمال، فله رهبته وجلاله، وكانت له موجات مثل أوتار العود، تدندن، وتدوزن، أنغامها في الصباح بوشوشة أشبه برقصة الطير على أيك الشجر، كان البحر، يأتي ليأخذ بأيدي السفن نحو الأعماق، داعياً إياها إلى حفلات صيد وفير، كما أنه ينسحب في جزر كئيب يثير الأسى في نفوس الصيادين وأرباب السفر، ما يجعل العلاقة كما هي العلاقة بين شخصين، تشوبها مشاعر الاقتراب والاغتراب، ولأن الأنا حاضرة بقوة، ونفوذ في الوعي، فإن تجسيد البحر في صورة كائن خرافي يتشكل في صور مختلفة، ويرتسم في الذهن على شكل تمظهرات متنوعة، ومزدوجة، حسب الموقف، والمكان، والزمان.
حكايات الليل السوداء
هناك عوامل متعددة تجعل من الخرافة واقعاً مأزوماً بالكذب، وأول هذه العوامل هو أن في الزمن الغابر كان المكان مفعماً بالظلام، ما يجعل سرعة انتقال الخيال إلى واقع، حيث تحت جنح الظلام لا توجد فواصل، فأنت في ذهابك إلى السرير من الممكن أن تدخل الحمام، أو تدوس على خاصرة شقيقك، كما أن في وجود الظلام يخصب الخيال، وتنمو شعيراته الدقيقة، وتكبر على حساب الوعي، والوعي يتقهقر، كلما اشتدت حدة الظلام، وبخاصة عندما تكون أداة السرد، قوة مهيمنة مثل الأم، أو الأب، بصفتهما الأنا العليا، ولأن العلاقة الأبوية في الزمن السابق، كانت علاقة مرتهنة بالقيود الاجتماعية الوثيقة إن لم نقل إنها كانت محكمة القيود، وبالتالي، كان كل ما تفوه به الألسن الكبيرة، كان له الصدى الإيجابي، والإذعان الذي لا مفر منه. فكانت الكذبة حقيقة في حد ذاتها طالما صدرت من أفواه أولياء الأمور، الذين كانوا بمثابة إله الأرض، ولم يأت اسم الأب، مقروناً برب الأسرة، إلا ليعبر عن هذا العرف الاجتماعي، والسلطة الأبوية الصارمة، وهي التي تحدد الخيال، كما تحدد المصير. الأم مصدر الحكاية الأولى، يرضع حليبها الصغير في المهد، ويتبعها حكايات أخرى متعاقبة حسب ما تقتضيه الضرورة الأسرية. فالأم تنهي صغيرها عن الاقتراب من البحر، ولأن بابا درياه، يخطف الأطفال، وتكمن تحت هذه الحكاية نوازع كثيرة، فعندما يتوقف الطفل عن الذهاب بمفرده إلى البحر، فهو يحمي الأم من القلق الذي يداهمها أثناء غياب البحر، كما أن ذهاب الصغار إلى الأماكن البعيدة قد يعرضهم إلى الأذى الجسدي، والنفسي من قبل الأصدقاء الكبار، وبخاصة رفاق السوء. كما أن حب الامتلاك جبلة أبوية لدى الوالدين، وهذا ما يتطلب الذرائع التي يخفيها الآباء والأمهات خلف الغريزة الأولى، وهي تملك الإرادة لدى الغير، الذي يمثله الطفل.
أحلام وخرافات
التاريخ دفتر قديم يحفظ ملفات الممارسة البشرية لطقوس، وتعاويذ، مختلفة الأشكال والألوان، والأصناف، وتتعدد السلوكيات حسب مقتضيات الحاجة للانسجام مع الواقع. كانت الزوجات يستبشرن خيراً عندما يمر دبور تحت سقف الخيمة، ويظل حائماً، ويصدح بصوته الرنيني، مبشراً بعودة الغائب، من السفر البعيد.
كن يبتهلن، عندما يمسك الطفل الصغير بطرف عرجون قديم، ويمشط به مفرش الحصير. وكن يتشاءمن من قلب النعال على وجهه، لأنه فأل شر. وعندما تحلم المرأة بانكسار آنية في المطبخ، فإنها تحزن، لأن الفنجان المنثلم، أو المنكسر، يوحي بمشكلة زوجية، وكذلك حلم ليلي بوجود قطة غريبة في البيت، يعني زواج الرجل من ثانية، ووقوف القطة السوداء عند باب الخيمة، يدل على أمر جلل.
صناعة بشرية، مبعثها الأنا، التي لا تريد أن يصبح الإنسان في حالة التوافق مع الواقع، ولذلك تختار الصور البلاغية المحكمة، لتحيك خيالاً مرعباً، في النفس. خرافات مثل هذه مآلها ضياع الكينونة في غابة التاريخ المفعم بالصور المقلوبة، كل الأشياء في الخيال الأنوي، تأتي منبعجة مثل انبعاج العصا في الماء.
في وسط المحيط الأنوي، يعيش بلا مراقب واعٍ، هو في اللاوعي، مثل الأعمى في وسط كومة من نثار الزجاج، لابد أن يتعثر فيجرح قدميه، عندما يصحو الوعي ويتسع، يدرك الفرد مفردات ما تقدمه الأنا، فيستطيع فرز الصالح عن الطالح، فلا يتعثر في الوجود، مما يصبح قادراً على تجنب التعاسة. فالتعاسة بيت داء اللاوعي، عندما لا تكون واعياً قد تضطر المشي على الزجاج، وتظل تصرخ، وتدين، ولكن لا علاج للجرح، طالما بقي اللاوعي متحركاً في الفضاء المملوء بغبار الغامض والمبهم.
متواليات الأفكار
كان البحر موطن المخلوقات جميعاً، حيث جاء الخلق من الماء، ويقول طاليس الإغريقي: «إذا كانت جميع الأشياء جاءت من الماء، فلننق الماء». وإذا كانت جميع الأفكار جاءت من الوعي، فلننق الوعي. ولكن ماذا جرى للوعي كي يبقى مشوباً بالملوثات؟ لقد عاش الإنسان، على مدى الزمن، على متواليات الأفكار، تتوارث هذه الأفكار، وحتى الحداثة في حد ذاتها لم تستطع الخروج من بيت الوراثة. ويحكى أن رجلاً من جامعة طوكيو جاء إلى معلم بوذي يطلب منه تعليمه مبادئ التأمل، لم يرفض المعلم، بل استقبله برحابة، وأراد أن يستضيفه، فقدم له الشاي، لكن المعلم عندما أراد أن يسكب لضيفه الشاي، بدأ يسكب، ويسكب، حتى فاض الشاي، فصرخ الضيف، لقد فاض الشاي، لقد فاض الشاي، فالتفت له المعلم، وقال: «أنا لا أملأ الجزء الملآن، وإنما أملأ الجزء الفاضي. فاذهب وتخلص من الأفكار التي تمتلئ بها جعبتك، ثم عد لي، ستجدني حاضراً لتعليمك التأمل».
ويقول الفيلسوف السفسطائي بروتاغوراس: «إذا كان العقل مستبداً، فالصحوة مستحيلة».
الخرافة وجدان الـ(أنا)
الخرافة تقوم على الإرادة، والحب يقوم على الاستسلام. الخرافة تقوم على الأنا، والحب يقوم على نبذ الأنا. عندما نهضت الثورات في أوروبا، استيقظت الإرادة لمطاردة المثول الكنسي أمام اللامرئي، واستبسل الإنسان الغربي من أجل الأنسنة البحتة، معتبراً ذلك تحريراً للذات من سطوة الرهبنة، ومن دون وعي تقع تلك الذات في وحل الشخصانية رغماً عنها، وبدافع الحرية التي لم تجد لها مركزاً تنطلق منه سوى الأنا، وما أن استتب أمر الحرية المزعومة، حتى رفعت الأنا المغرورة رأسها ونظرت إلى الجغرافيا المحيطة بها، وشعرت بالضيق، والكدر، فماذا كان بإمكانها أن تفعل إزاء هذا الحزام الضيق، غير أنها تنطلق إلى الخارج، حيث أن ماكينة الأنا، والآلة المادية التي تحركها كانت تتطلع إلى مدار أوسع، يحقق طموحات العربة المنطلقة إلى
الفضاء، ونجد في القرن التاسع عشر، بروز الرغبة الاستعمارية، التي راح ضحيتها ملايين البشر، من القارة الأفريقية، ودول الشرق الأوسط، ومنها البلاد العربية، وأصبح الأمر جلياً أمام الأنا، من أنها لكي تستمر، لابد من التوسع على حساب الآخر، ولكي يتحقق التوسع لابد من التضحية التي كانت في البداية الهدف المزعوم، وبدلاً من أن تكون الحرية هي الهدف، انقلبت المفاهيم، وصار التوسع هو الهدف الأسمى، والخرافة الواضحة في بطن هذا التطلع هو أن الأنا راحت تزيّن التوسع هدفاً لاتساع الحرية التي لا تتم إلا بنمو رأس المال، على عاتق مصير الآخر بالنسبة للأنا، إنه لابد من ضعيف مستعبد، حتى يكون هناك قوي حر، يتصرف بقوة الإرادة تجاه الحياة. وإذا كان الخوف هو الشوكة التي تزرعها الأنا في الوعي، وهو البعبع الذي تخيف به الإنسان، فكان لابد من قوة تردع هذا الخوف، ولابد من الإيمان بأن الأنا لا تدعم إلا بقوة الإرادة، والإرادة لا تقوى إلا بالمال، ولكي يتم التكاثر، لابد من تحديث الآلة، التي تدر المال، وهكذا صارت الحرية المدعاة مبنية على الاطراد، والتضاعف، والمزايدة، والمغامرة، والمقامرة، والعمل على تزييف العملة، واللعب بالسوق السوداء، والاحتكار، والتصرف ببراجماتية بحتة، من دون النظر إلى البعد الإنساني. الخرافة لأنها لعبة الأنا الفظيعة، أصبحت هي مركز الدائرة في العلاقة بين الإنسان الغربي والآخر.
وجوه الحقيقة والخرافة
للحقيقة وجه، وللخرافة وجوه. أنت في الحقيقة لا ترى أكثر من وجه، لأن الحقيقة إما أن تأتيك كاملة، أو لا تأتي. الخرافة مستعدة أن تأتيك، ولو ناقصة، المهم في الخرافة أنها تحضر بأي شكل من الأشكال، لأن الخرافة متزلفة، ومنافقة، لكونها تأتي من بيت الأنا، الحقيقة عكس ذلك تماماً، فهي إما أن تأتي، أو لا تأتي، لأنها هي أنت، وعندما تكون ناقصة فهي خرافة مختبئة تحت لحاف الحقيقة.
الحقيقة تعطيك وجهها صريحة، ومن غير ريبة أو شك، وعندما تتقهقر الحقيقة، تبرز الخرافة، فمن وظائف الخرافة هو النفاق، والتخفي، والتسلق، والتزلق، والتدفق مثل مياه المجاري، مكثّفة بالطفيليات، أما الحقيقة فهي متضامنة، ومتناسقة، ولا تترك الفراغات بين أصابعها، حتى لا تخر حفنة الماء التي تجمعها أنت كي ترشف العذوبة.
المراقبة والتحوّل
تقول التانترا: «إذا بدأت بمراقبة نفسك سترى شيئاً فشيئاً بأن السلبي يموت، والإيجابي يغدو حياً أكثر فأكثر، ويختفي ذلك البؤس، وتدخل السعادة حياتك، وتبتسم أكثر، حتى دون سبب أحياناً، وتنبعث فيك روح الفكاهة».
سؤال: لماذا عندما نذهب إلى الأماكن البعيدة والمهجورة، نشعر بالرهبة، وينتابنا الخوف، ويبرد جسدنا، ونتخيل أشياء مخيفة، ترتعد لها أبداننا، ونفكر في الهروب من المكان الذي جئنا إليه، وللوهلة الأولى نرى أحداً يقف خلفنا، ويتربص بنا، وقد نشعر أنه يريد أن يضرنا؟ عدم المراقبة، هي الضلع الذي يؤلم أرواحنا، وهي الزاوية المظلمة التي تضيق بنا، وهي العالم الماورائي الذي يعبث بأفكارنا، وهي السماء التي تبدو سوداء على الرغم من وجود القمر الساطع، الذي يضيء كل الأمكنة، إلا داخلنا، لأنه محاط بهالة أشبه بعباءة الراهب السوداء، تلف كل جوانحنا، وتمنع عننا الضوء القادم من القمر، والقمر يبدو قطعة مخملية مبلولة بماء ملوث، ولا نستطيع طرد هذا الإحساس مهما بذلنا من جهد، لأننا محكومون بالانفلات الذي يعم أرجاء كوننا الداخلي، ولأننا لم نستطع الخروج من الكهف، الذي تحدث عنه أفلاطون، فماذا نفعل إزاء هذا الكسوف القمري المريب؟ ماذا نفعل بحق
هذه الاستدارة المريعة باتجاه الظلام الداخلي؟ نحن لسنا نحن، وأنا لست أنا، فنحن هم وأنا هو، إذا أنا لم أولد بعد، ولم تنفتح الأحشاء السرمدية، كي تخرجني إلى الحياة، أنا ما زلت في قماط، مزنجلاً بأصفاد لا أعرف حقاً من أين جاءت، ومن وضعها، كل ما أعرفه إنني في القيد، والسجان ضمير غائب يعبر عن نفسه فقط من خلال الخوف المتشبث في جوارحي، وأنا أعبّر عنه من خلال انثيالات تنصب على رأسي، مثل شلال يسكب رجيمه من مكان ما من الجبل الشاهق.