الكاتبة تتسلق إلى ذاتها
كمن يبحث بين حطام واسع في ظلمة حالكة عن نقطة ضوء يرى فيها موقع قدميه... هكذا تبدو الكاتبة مريم الساعدي في كتابها “أبدو ذكية” لجهة علاقتها بالحياة وما تحفره من تساؤلات وجودية تؤرقها. وفي غير مكان من كتابها الصادر عن دار العالم العربي للنشر والتوزيع، وبدعم من مؤسسة محمد بن راشد آل مكتوم ضمن برنامج “اكتب”، تتجلى نزعة تساؤلية لافتة لا تعترف بالمسموح به ولا تتوقف عند نقاط حمراء فيما يتعلق بمشروعية السؤال وجوهره المعرفي.
أجسادنا لا تمثلنا
لا يبدو عنوان الكتاب الذي تأتي نصوصه من بُنيات فنية مختلفة على مستوى الشكل عفوياً ولا ساذجاً بل محكوماً بقصدية تتجلى غوامضها مع قراءة النص الذي يحمل عنوان المجموعة نفسها “أبدو ذكية”، والذي جاء بمثابة الحامل الفني الذي اختزلت من خلاله الكاتبة وكثفت رؤاها التي نثرتها في نصوصها الأخرى. ومن دون الغوص في علاقة العنوان بالنص ودلالاتها المتشابكة على طريقة السيميائيين، يمكن القول إن هذه القصة الجارحة اعتنت واهتمت بواحدة من الإشكاليات المهمة التي عنيت بها الفلسفة أصلاً ثم وجدت طريقها الى اهتمام النقد الأدبي وأعني بها علاقة الروح بالجسد وما يعتورها من مآزق وتشوهات وقولبات فكرية. الجسد هنا بوصفه علامة تقدم شخصية صاحبها وتصوغ سماته وصفاته وتفتح أو تغلق علاقته مع الآخرين محددة شكلها وعمقها وربما ديمومتها.
هذه العلاقة الوعرة بلا شك هي المضمون الفكري الذي قام عليه جسد النص لتلج من خلاله الكاتبة الى ما نرتكبه في حق أنفسنا وأرواحنا وحتى أجسادنا عندما تتسطح العلاقة بين الروح والجسد، ثم لتطرح علينا سؤالها الجارح عن الكيفية التي يتعاطى بها كل شخص مع جسده والطريقة التي تتعاطى بها الحضارة المعاصرة مع الجسد وما يجري من تسطيح وتشويه لماهية ومعنى وطبيعة تلك العلاقة. ثمة اتهام واضح في النص لأجسادنا بأنها لا تمثلنا، على الأقل ثمة شريحة ما الكاتبة واحدة من أفرادها لديها مثل هذه المعضلة، ومن هنا تبدو العلاقة مع الآخرين للكاتبة صعبة وقاسية وتحتاج إلى كتيبات إرشادية أو “دليل المستخدم” لكيف تتعامل مع الناس، مع هذا الانسان بالذات وتلك الإنسانة على وجه الخصوص، مع هذا الموقف وتلك الحالة، مع نفسك وإحساسك الذي لا تفهمه، لكن مثل هذه الكتيبات غير موجودة في حوزتها، وبالتالي هناك مشكلة حقيقية ومعقدة في التواصل مع الآخرين والوصول إليهم... الى ذلك يبدو الجسد خائناً في أغلب الأحيان، إنه يقول عنا خلاف ما نحن عليه، يظهرنا للآخرين بصورة تخالف دواخلنا في أحيان كثيرة... إنه يغرر بنا وبهم. هي تبدو مشغولة أو حائرة بهذه الحالة المعرفية المضللة. إن أجسادنا تشكل عبئاً حقيقياً: “كيف تشكل أجسادنا كل هذا العبء؟ كيف نقضي الحياة ونحن نحاول أن نقدمها الى العالم بشكل صحيح، بشكل يعبر عنا فعلاً”.
تتواتر الإشارات الدالة في القصة على عمق الأزمة الروحية التي يعيشها المبدع الذي يقرر أن يفكر ويسأل بشكل مختلف عن الرائج أو المكرس، في كل ما يخص علاقته بذاته وجسده وروحه وسبب وجوده وبالآخرين وبالكون من حوله، لكي لا ينشغل بفن تقديم نفسه الى العالم من خلال المظاهر الحياتية المختلفة فالناس في غمرة انشغالهم بالآخرين يحبسون أنفسهم في صناديق من الانطباعات تتحول الى سجن حقيقي. تتسع دلالات الجسد في هذا النص لكي يصبح الهوية الذاتية للمرء او بطاقته النفسية، ماهيته، ولهذا فإن إساءة فهم علاقة الجسد بالروح بمثابة صدمة مهولة، لأن الخلل ساعتها يكون في المنهج أصلاً. عندها لا مفر من السقوط في الاحباط والعزلة والألم والمعاناة والغربة الكاملة عن المحيط والانفصال عن العالم الخارجي الذي لا مخرج منه سوى النوم. النوم الطويل التي تظن أنه سيؤدي في النهاية الى الموت. لهذا تستعد للنوم كأنها ذاهبة الى الحرية الكاملة التي يتحرر بها البشر من محاولة الإدراك والاستيعاب وفهم كل شيء والتصرف بناء عليه بشكل لائق... بكلمات أخرى: الخلاص من عبء الحياة الذي تراه ثقيلاً.
المعذبون في الأرض
بذكاء وربما (بخبث) إبداعي، والخبث في الإبداع محمود، تصوغ الساعدي نصوصها المعجونة بألم عميق وغائر، يتمظهر حيناً في أسئلتها التي تبدو بلا إجابات ممكنة وحيناً في سخرية حادة مبطنة، تختفي وراء العبارات التي تجتهد الكاتبة لتجعلها تبدو بسيطة، وعادية، فيما هي تتوفر على كم غير قليل من الموقف النقدي العميق تجاه ظواهر وممارسات وحالات مجتمعية تستحق الهجاء. بلغة بسيطة لكنها دالة لا ينقصها العمق، وبجمل قصيرة لا تنقصها الكثافة الفكرية، تصوغ الكاتبة مريم الساعدي قصصها الباحثة عن فضائها الجمالي. تجرب بلا خوف. تكتب بلا وجل فني أو فكري. تقولب أفكارها في موقف أو تلخصه في عبارة تذهب الى حكمة مرتجاة. ترتجل، ترتجف، تتوتر الكلمات بين اصابعها، تشق لها طريقاً الى صورة مدهشة وصياغات أدبية تستولي جمالياً على القارئ، عاكسة في كل ذلك وعياً جارحاً وحاداً بمفارقات الحياة الوجودية وما تطرحه على الإنسان فكرةً ووجوداً وهويةً وانتماءً وغايةً.
لا تكتب مريم لتنفس عما يعتمل في صدرها وروحها فقط، بل لتنير عتمتها الداخلية، لتتسلق إلى نفسها، لتواسي روحها القلقة، لتجعل الحياة أكثر قابلية للاحتمال، وربما داعبها الأمل في أن تسرّب شيئاً من رغبتها هذه الى القارئ فتجعل إمكانية احتمال الحياة لديه هو أيضاً أكبر. إنها مبتلاة بالكتابة كما تقول هي في نص طويل يحمل عنوان “في سبيل الرواية” وهو ليس قصة بقدر ما يبدو أقرب الى شهادة إبداعية حول الكتابة وأسرارها جاءت في صيغة فنية تتمثل كاتبة تهجس بحلم كتابة رواية... لكنه الابتلاء الجميل الذي لا يعرف عذوبته إلا من يكابده.
تتباعد الحالات الإنسانية التي تعالجها الكاتبة وتتقارب تبعاً لمزاجية إبداعية تصنع الافتراقات البيّنة بين نص وآخر... لكنها في المجمل تسعى وراء إنسانية غائبة، مفتقدة ومفقودة، في مدن لم تكن بحجم الأمل المعقود عليها. وتغترف من معين الحياة اليومية المليء بالحكايات والناس والأحلام المتهالكة شخصيات تخفي وراء تعليقاتها البسيطة حكمة واسعة وتفلسفاً مصاغاً بدقة فنية عالية... وتعمل على تحويل التفاصيل العادية والمألوفة إلى مادة قابلة للسرد بسوية فنية قد لا تلتزم بالمعايير التقليدية للقصة القصيرة لكنها تقترح شكلها الفني الخاص، محملة إياها رسائلها الظاهرة والمضمرة.
حالات إنسانية
“ليلة شتوية جميلة في أبوظبي” و”لطيفة راشد أو الحنان المسكوب على النملات في الشارع”، و”بقعة زيت”، و”فراغ عاطفي”، و “يوميات إنسان كادح ووحيد و مليء بالشجن”، و”قصة حزينة عند إشارة مرور حمراء”، و”عن الرحلة وأهوالها”، و”مريم فوق السطوح”، و “جدي الذي مات”، و “رجل جميل في رحلة طويلة”، ليست سوى حالات إنسانية محكومة الى مصائرها التراجيدية. إنها شخصيات أرهقها العذاب والانسحاق المجتمعي او العاطفي او كليهما معاً.. شخصيات مأزومة، مقهورة، حلمت وضاعت أحلامها، أو تعطلت حياتها بسبب جور اجتماعي منبعه نظرة او اعتقاد خاطئ. وثمة باحثون عن الحرية في بعديها الفكري والشخصي لا سيما القصص التي تحكي عن المرأة وآلامها. وهي غالباً شخصيات مجهولة، لا اسم لها، لأنها تنطبق على كثيرين. حالات يغيب صوتها لتبوح الكاتبة / الساردة بما تعانيه، وتتولى مهمة الإفصاح الروحي والفني عن همومها. ومن هنا، ليس غريباً أن يكون صوت الكاتبة هو الصوت الوحيد الظاهر في النصوص، والضمير المسيطر هو ضمير الغائب الذي تولت الكاتبة إحضاره إلى ساحة البوح.
تنقل مريم الساعدي هذه الحالات برشاقة فنية، فهي تنجح في جذبك إليها وتحقيق تعاطفك معها من دون أن تغرقك في جبّ الحزن العميق بل غالباً ما تدفعك الى السؤال عن مدى “عدالة” ما يجري ومنطقيته. وإذ تصف حالات المعاناة أو فقد الحب او الخوف او الحيرة والضياع الإنساني او الفراغ العاطفي او التوق الى الحرية وتحقيق الحلم لا ترسم فقط ملامح شخصياتها المعذبة في الأرض بل تضع اصبعها النقدي على لب مشكلة الإنسان المعاصر وفقدانه إنسانيته وحريته.
أخيراً، ثمة تقديم عميق قالت فيه الكاتبة: “ما هذه الحياة سوى سطح أملس هائل، نمضي العمر محاولين السير عليه بثبات واستقامة، فإذا بنا نقضي الوقت منزلقين.. متدحرجين.. متسلقين.. متعلقين بأقدام بعضنا بعضاً”... يمكن القول إنه مفتاح يأخذ القارئ الى عوالمها ونصوصها. ذلك ان واحداً من الأفكار الأساسية التي تقوم عليها كتابتها هي تلك الحالة من اللاثبات واللايقين التي تغلف ما حولها: الأفكار والآراء والمواقف والعواطف والانفعالات والأماكن وحتى البديهيات والمألوفات، وكل التفاصيل اليومية، الصغيرة، الثاوية في مألوفيتها التي تحجبها عن لفح الأسئلة والتي تراها الكاتبة، وتدعونا إلى رؤيتها، بالقلب لكي نبصر ما لا تراه العين.
ثمة حيوات تنزلق الى عتمتها. ثمة حيوات تجاهد لتحيا. ثمة حالات إنسانية مشبعة بالحنان. ثمة باحثون عن الحب والفرح والأمل واليقين... وما أكثر الخيبات وما أقل الناجين...!!