مبدع بامتياز .. قومي بامتياز.. عاش الشعر بصدق وعذوبة، كان صريحاً حد الجرح وجريئاً جرأة الأبطال، اعتبر الموت حرية وفضاء لا نهاية لهما، عشق القصيدة واحبها؛ لأنها كانت تمثل لدية موقفاً إنسانياً بالدرجة الأولى.. هذا هو “بدر شاكر السياب” الذي رحل عنا في مثل هذه الأيام، وتحديداً في الخامس والعشرين من شهر ديسمبر 1964م، بعد حياة عاصفة قصيرة، بعيداً عن وطنه، ليؤشر برحيله معنى مأساوياً مريراً طبع حياته القصيرة التي لم تتعد الـ (38 عاماً)، بعد أن أنجز (أنشودة المطر) التي كانت أبلغ بيان عن الحداثة الشعرية العربية. كما نتذكر تراثه النثري وفي مقدمته سلسلة من مقالاته وقصصه التي نشرها في ملحق جريدة “الشعب”، إلى جانب مجموعة دواوينه: أعاصير، زئير العاصفة، الروح والجسد. السياب هو ثالث ثلاثة لا يذكر الشعر الحديث في العراق إلا ويذكرون: وهؤلاء هم نازك الملائكة، وعبد الوهاب البياتي، والسياب.. الشاعر القلق، المعذب، الذي لم يبق لنا منه إلا هذه الحمم البركانية الملتهبة من شعره، فقد بدأ حياته شاعراً بديوانه الأول “أزهار ذابلة” الذي طبع في القاهرة عام 1948م، وأغلب قصائده رومانسية المضمون، مبنية في إطار الشعر العمودي التقليدي. وقد كانت تجارب قصائد هذا الديوان “قداح وأحلام، السوق القديم، اللقاء الأخير”، محدودة القيمة ولا تخرج عن كونها تجارب تلميذ نجيب من تلامذة دار المعلمين العليا ببغداد التي تخرج فيها عام 1949م. ديوانه الثاني “أساطير” صدر عام 1950م، وقد جمع فيه طائفة من القصائد التي سبق أن نشرها في عدد من الصحف العراقية، وقد عرف من خلال هذه القصائد طريقه إلى “الأدب الرومانسي الأوروبي” على نحو ما هو موجود عند الشاعرين: شلي وكيتس.. حتى لقد دفعه التغلغل في التجربة الرومانسية إلى محاولة معارضة هذين الشاعرين معارضة جريئة، ومثال ذلك قصيدته “اتبعيني” وقصيدة شلي “اتبعيني..اتبعيني” المشهورة في الدراما الغنائية. وتشير هذه القصيدة إلى أن السياب حاول أن يتخفف من تقليده البلاغة العربية القديمة التي كان وجدانه الرومانسي حبيساً في إطارها. فهو في نسجه على منوال شلي وكيتس لم يكن صاحب خيال فلسفي مثل الأول، ولا صاحب خيال حسي مثل الثاني، وإنما كان صاحب وجدان من نوع ثالث، راعش إلى درجة الحمى، متفجر كالحمم، وجدان ليس فيه أحلام وردية رقيقة ولا أحلام حزينة شجية كما في مختلف أحلام الرومانسيين، ولكنها أحلام هائجة مضطربة كالأعاصير ولهذا سرعان ما نجده قد تمرد عليهما وعلى رومانسيتهما الأوروبية، كما ثار على الكلاسيكية العربية. قلق الروح منذ صدور ديوانه “أزهار ذابلة” والسياب يمر بمرحلة من القلق العروضي والقلق الروحي معاً، أما الأول فكان منشؤه ذلك الإحساس العميق الذي استولى على أبناء المدرسة الجديدة من الشعراء ولا سيما بعد الحرب العالمية الثانية مباشرة – بأن المدرسة الرومانسية قد استنفذت أغراضها شكلاً ومضموناً، بعد عشرين عاماً أو نحوها قضتها مدرسة المهجر ومدرسة أبو لو في مواجهة شوقي وحافظ إبراهيم، والكلاسيكية العربية، وقد كان السياب من ذلك الجيل الذي تكون وجدانه الاجتماعي والسياسي في بوتقة تلك الحرب، وكان أن التقط أهم سؤال من نتائج الحرب: لماذا يقتتل البشر وهم بناة الحضارة وصانعو الجمال والإبداع والحب والربيع وكأنهم قطعان من الذئاب الضارية تبحث عن فريسة؟ وأين مكان الأمل؟ وما سبيل الخلاص من صانعي الحرب؟ ومن هنا بدأت فترة القلق الروحي عند السياب، وقد تجلى ذلك في بحثه عن خلاص الجماعة بدلاً من خلاصه الفردي، وقد وجد يومئذ الإجابة عن كل تلك الأسئلة الخطيرة التي طرحتها الحياة على أبناء جيله، من شباب الحرب العالمية الثانية وقد وجد ضالته في الفلسفة الماركسية، فانضم إلى الحزب الشيوعي العراقي، وكان خلال تلك الفترة كثير اللقاء بالشاعرة نازك الملائكة التي أصدرت ديواناً مهماً بعنوان “شظايا ورماد” عام 1949م، أما هو فقد فصل من وظيفته بسبب نشاطه الشيوعي، وكان وقتها مدرساً للغة الإنجليزية في لواء الرمادي بعد تخرجه في دار المعلمين العليا. وقد اعتقل أكثر من مرة ولم يستطع إصدار ديوانه الثاني إلا في عام 1950م. أما القلق الفني في حياة السياب، فقد بدأت بوادره الأولى في تجارب قليلة من “أزهار ذابلة”، كما في قصيدته السوق القديم؛ حيث نجده يعدل عن وحدة القصيدة ونظام القافية الواحدة والتفاعيل المتساوية إلى نظام المقطوعات المتفاوتة الأطوال، المجدولة القوافي وكأنها الضفائر: الليل والسوق القديم خفتت به الأصوات إلا غمغمات العابرين وخطى الغريب وما تبث الريح من نغم حزين في ذلك الليل البهيم الليل والسوق وغمغمات العابرين وأخيراً يجد السياب تجربته الخاصة، بعد أن تحول من التجربة الفردية إلى التجربة الجماعية أو قل مرحلة “الرومانسية الجماعية”، وهكذا انتهى إلى ما يمكن تسميته إلى ما يعرف بـ”أدب الكفاح” أو “أدب الالتزام في سبيل الحياة”، وقد كانت معظم قصائده التي نشرها بين أعوام 1950 و1960م، تعبيراً فعلياً عن روح الجماعة، منطلقاً من التقليد إلى الخلق والإبداع ومن أسر الشعر التقليدي إلى بناء الشعر الجديد مادة وصورة في أكثر تلك القائد التي جمعها ونشرها في أشهر دواوينه على الإطلاق بعنوان “أنشودة المطر” عام 1960 في بيروت. ومن القصائد التي وصف فيها بغداد في عهد نوري السعيد هذا المقطع: يا جثة على الثرى مستلقية الدود فيها موجة من اللهيب والحرير بغداد كابوس رديء فاسد يجرعه الراقد ونحن في بغداد من طين يعجنه الخزاف تمثالاً دنيا كأحلام المجانين. واليوم ما نفعل؟ نزرع أم نقتل؟ أهذه بغداد؟ أم أن عامورة عادت فكان المعاد تنويعات كثيرة في شعره تجدها وهو يتمثل تكنيك “ت. اس. اليوت”، إنه لا يقلده بل يحتويه ويتغذى به، ولا شك في أنه في قصيدته السابقة قد انتفع إلى حد ما بقول اليوت عن لندن في “الأرض والخراب”، كذلك انتفاعه من صورة المدن الملعونة التي خربها الله لفسق أهلها، سدوم وعامورة، وإيحاؤه بأن بغداد صائرة إلى مصيرها المحتوم وهو مصير عاد وارم ذات العماد. في قصيدة “أنشودة المطر” يعبر عن الجدب والعقم الشامل في حياة بلده باستغلاله صور الجفاف والعطش وانقطاع الغيث عن الأرض، ولكنه في الوقت نفسه يوحي بتجمع البرق والرعد والغيوم المثقلة بالمطر بين جبال العراق وفوق وديانه، وهي المقابل أو المعادل الموضوعي المألوف للثورة الوشيكة في شعر شلي وعامة الرومانسيين. وهو حين يستهل قصيدته يتكلم بلسان العاشق المرهف وبإيقاع من أعذب ما ظهر في الشعر العربي الحديث، معنى ومبنى ودقاً على أوتار العروض فيقول: عيناك غابتا نخيل ساعة السحر أو شرفتان راح ينأى عنهما القمر عيناك حين تبسمان تورق الكروم وترقص الأضواء كالأقمار في نهر وحينما يقول: كركرة الأطفال في عرائش الكروم ودغدغت صمت العصافير على الشجر أنشودة المطر مطر مطر وليس هناك من سبيل إلى وصف هذه الحركة الموسيقية التي ران عليها الحزن الشفيف والأمل الواجف في هذا النشيد، إلا أنها تتبع حركة الموسيقا في السوناتا المعروفة بتنويعاتها. تطورت مراحل السياب الشعرية إلى مرحلة الالتزام اليساري وجملة من القصائد الملتزمة مثل قصائده عن جميلة بوحيرد وبور سعيد والمومس والعمياء وغيرها من القصائد. إلى أهم دواوينه “المعبد الغريق 1962م” و”منزل الاقنان” – 1963 و”شناشيل” 1965. عذاب حتى الموت المعبد الغريق مجموعة من القصائد القصيرة التي تحمل إحداها عنوان الديوان، ويمثل مرحلة العذاب الفردي في شعره، حينما انسحب مرة أخرى إلى دائرة الوجدان الفردي والأرجح أنه دخلها بعد أن أصابه المرض، حيث برزت قصائد عديدة تتغنى برثاء النفس ومنها قصيدة “أمام باب الله” وعدها النقاد بمثابة مفتاح حزين لكثير من الأنغام الأيوبية التي برزت في شعره منذ عام 1961م: هكذا كان اشتياق السياب للموت وإلى لقاء الله ليخلص من جحيم عذابه الجسدي والروحي. أما في منزل الاقنان فقد لعب توظيف المكان دوراً مهماً في صياغة قصائده، فقد ابتنى لنفسه مدينة من مدن الأحلام كان يرتد إليها كلما اضطربت من حوله الحياة، وقد كانت بلدته “جيكور” هي مدينته السحرية التي تبدو في شعره كالجنة الضائعة. وقد أضاف السياب إلى بناء قصائده ذلك الموقف الشعري فخرج به عن كونه مرتعاً لذكريات الطهر والنقاء وجعل من المكان “جيكور” رمزاً يتطور من قصيدة إلى أخرى حتى غداً بمثابة المرفأ الأخير من جحيم الحاضر بعد أن كان مجرد صورة شعرية من صور العصر الذهبي ونجدها في أدب باستورالي، وباختصار شديد لقد أصبح المكان عنده رمزاً من رموز الخلاص حينما يقول: جيكور لمي عظامي وانفضي كفني من طينه واغسلي بالجدول الجاري قلبي الذي كان شباكا على النار في جانب الأسطورة جعل السياب من حبيبته التي رحلت ومن أمه صورة أسطورية تمثلان السبيل إلى تجدد الحياة. لقد جعل من وفيقة حبيبته - وهذا هو اسمها - في قبرها شباكا أزرق وقال إنه قصرها مثل فينوس، وهو أيضاً يستخدم ببراعة صورة مولد فينوس أو افروديت الحب حينما خرجت من محارة من بين أمواج البحر، وأحياناً كان يصورها في هيئة عشتروت ربة الخصب الآشورية البابلية، وأحياناً يجعل منها إيزيس مصر. وهنا تتجلى بوضوح تقنية توسعه في استخدام ما يسمى عادة بـ”الإشارات الكلاسيكية لرموز التراث”.