خريف تولستوي الأخير
يحيي العالم الغربي هذه الأيام ذكرى مرور100 عام على وفاة الروائي الروسي ليون تولستوي، وإن كانت مذكّرات زوجته صوفيا ويومياتها الّتي نشرت مؤخرا والّتي قدّمنا في الملحق عرضا عنها صنعت الحدث الأدبيّ، فإنّ الفيلم الّذي خرج للقاعات في فرنسا يوم 8 ديسمبر 2010 (أي بعد صدور الكتاب بقليل) والذي يروي هو أيضا علاقة الروائي بزوجته صنع هو أيضا الحدث الفنّي.
يحمل الفيلم في الأصل عنواناً هو “المحطّة الأخيرة” The Last Station في حين أنّ الموزعين الفرنسيّين اختاروا أن يستبدلوا المحطّة بالخريف ليصبح العنوان: “الخريف الأخير - Le Dernier Automne. وتمّ تصوير هذا الشريط السينمائي الذي يمكن تصنيفه ضمن أشرطة السيرة الذاتية قبل صدور مذكّرات صوفيا تولستوي، واعتمد المخرج الاميركي في سيناريو الشّريط على شهادات مكتوبة لأبناء وأحفاد وأقرباء لتولستوي، وعلى يوميّات الرّوائيّ نفسه، كما اعتمد على رواية كتبها الرّوائيّ الأميركي جاي باريني Jay Parini وتحمل نفس عنوان الفيلم (المحطة الأخيرة) وموضوعها هو وصف دقيق ومفصل لآخر عام في حياة الروائي تولستوي وسرد لكل الأحداث التي عاشها إلى حدّ وفاته. وقد صدرت الرواية عام 1990 وتمّت ترجمتها إلى أكثر من عشرين لغة من بينها اللغة الفرنسية بعنوان: “سنة في حياة تولستوي”، ورغم أنّ المخرج، وهو أميركي، يعترف بأنّه يفضّل الرّوائيّ الرّوسي دوستوفسكي على تولستوي، إلا أنه رأى في العام الأخير لحياة هذا الأخير عاما ما سماها بـ “العاصفة” والتي تصلح أن تصوّر سينمائيّا.
صراع
الفيلم من انتاج مشترك وتمّ تصويره في ألمانيا بأموال روسيّة وهو يظهر وجها غير منتظر عن العلاقة العاطفيّة والزّوجيّة بين تولستوي وصوفيا، فهما متحابان (نسخت بيديها ست مرات مسودة روايته “الحرب والسلام”)، إلاّ أنّه حبّ على طريقتهما، فعلاقتهما يسودها الوئام حينا وكذلك ايضا الكثير من الخصام واختلاف وجهات النّظر وتبادل الشّتائم أحيانا، ففي الوقت الّّذي أنجب فيه تولستوي 13 ولدا من زوجته، فإنّه كان يتحدّث إليها عن الجنس بشكل منفّر ومقزّز، بل إنّه غالبا ما يحدّثها عن حذره من النّساء حتى انها كانت في مشهد من الفيلم تصرخ في وجهه: “إني اكره فيك ما وصلت اليه حالك من سوء تصرف وتفكير غريب”.
والفيلم الذي يتواصل عرضة ساعة و52 دقيقة يتوقف عند التحوّل الذي طرأ في الأعوام الأخيرة من حياة تولستوي على نمط تفكيره، فقد قرر التخلي عن صفته كأحد النبلاء والانضمام الى عامّة الفلاحين، كما عزم على ترك كل ما يملك ليتفرغ لحياة التقشف والزهد والاكتفاء بعيشة الكفاف بحثا عن صفاء النفس والسمو بها عن ملذات الدنيا وتخليصها من شوائب المادة، وهو الذي يقول في الشريط: “ان الثروة تفسدنا”، ويظهر الشريط غضب زوجته من تصرفه ورفضها للمنحى الجديد الذي اختاره وهي ترى أن كل شيء ينهار أمامها. انه صراع بين أفكار تولستوي المثالية وبين واقعية زوجته المتشبثة بالحفاظ على أملاك الروائي وثروته حتى تطمئن على مستقبل ابنائها.
ورغم أنّ ميزانيّة الفيلم لم تكن ضخمة مقارنة بالأفلام الأميركيّة فإن الممثلين جميعهم أبدعوا في تجسيد أدوارهم، فالممثّل الكندي كريستوفر بلومر Christopher Plommer، وهو في الثّالثة والثّمانين نجح في تجسيد شخصيّة الرّوائيّ في آخر أيّامه، كما أن الممثلة الانجليزية هيلين ميرن Helen Mirren أبدعت في تقمص شخصيّة صوفيا المتأرجحة بين الرقة والحدّة والممزقة بين حبها للرجل الزوج ورفضها لأفكاره، أما المخرج ميخائيل هوفماس Michael Hoffmas فقد أراد أن يحلّل شخصيّة تولستوي، ورغب في تصوير قصّة علاقة زواج تخرج عن المألوف، فالروائي وزوجته متحابان وفي نفس الوقت يكره الواحد منهما الآخر.
والفيلم يحاول أن يجيب على السؤال التالي: هل يلتقي الحبّ والكره في علاقة واحدة؟ والجواب كما يستشف من الأحداث هو: لا، كما يظهر الشّريط انّ شخصيّة الرّوائيّ الرّوسي الكبير كما تتجلى في الفيلم جمعت – حسب بعض النقاد - بين العبقريّ و”الغبيّ”، وبين الملهم والمتجبّر، ومن أطرف المشاهد في الفيلم اللقطة التي يظهر فيها الرّوائيّ وهو جالس إلى مكتبه، وزوجته مستلقية على سريرها تحاول دعوته للالتحاق بها قائلة له في دعابة ودلال: “إنّي دجاجتك الصّغيرة”، فما كان من تولستوي إلاّ أن أخذ يقلّد صياح الدّيك.
مات وحيداً
وعلى ما يظهر من الفيلم فإن صوفيا كانت تحبّ زوجها ولكنها كانت في آخر اعوام حياته تكره أفكاره، أما تولستوي الذي يصنف كأحد اكبر الروائيين العالميين فلم يوفق بين أن يكون روائيا استثنائيا ومفكرا عبقريا وربّ أسرة ناجح.
ورغم ان النقاد اجمعوا على القول بان الشريط لم يأت بجديد إلا أن أداء الممثلين اهدوا المشاهد الإحساس بانهم يعيشون حقا فترة من تاريخ روسيا. وقد نجحت الممثلة هيلين ميرن في تقمص وإبراز ما أسماه النقاد بـ “الروح الروسية”، كما ذكر ناقد آخر أن الفيلم هو “أكاديمي” أكثر منه “فني”، وعاب على المخرج الإطالة والتمطيط في مسألة الخلاف حول قضية الإرث والميراث ولكنه في المقابل افلح في اظهار التناقضات التي كانت تنهش الروائي في اخر أيام عمره.
وقد وصف المخرج الفيلم الذي ينتهي بموت الرّوائيّ بأنّه “كوميديا مأساويّة”، ضاعف مأساويتها أنه يموت في محطّة أرتال وهو ينتظر قطارا ينطلق نحو محطّة قادمة. ويصوّر الشّريط تحوّل الرّوائيّ من رجل مقبل على الحياة إلى ناسك زاهد فيها، في حين هناك من ذهب إلى حدّ القول بأنّ تولستوي أصابته في آخر أيّامه لوثة من الجنون، وقد فرّ من زوجته ومن بيته ليموت فجأة في محطّة قطار وحيدا بقرية “أسوتوف “على بعد 150 كيلومترا من موسكو، وينتهي الشّريط على مشهد موت الرّوائيّ وكان الفصل خريفا يوم 20 نوفمبر 1910، وهي فترة انتهى فيها قرن وبدأ فيها قرن آخر، وكان العالم على أبواب حرب كونيّة وهي الحرب العالميّة الأولى، كما كان زمنا كانت فيه روسيا على أبواب الثّورة البولشيفيّة الّتي اندلعت بعد سبعة أعوام فقط من وفاة تولستوي.
لقد أسدل تولستوي السّتار وهو يموت في مشهد مؤثّر على فترة من تاريخ روسيا لتبدأ بعد رحيله فترة أخرى مختلفة.