عندما نتحدث عن المدارس الفنية، والحركات الأصيلة التي انطلقت من خارج التبعية للآخر -الأوروبي خصيصاً- فإننا نكاد لا نحصي غير حركات قليلة استلهمت التراث العربي، واشتغلت عليه بمنهجية عالمة، أعطت رؤية فنية يمكن أن تحسب في انطلاقها من محليتها الخصبة على العالمية، ومن أبرز هذه المدارس التي أتت فضاءاتنا بجمالياتها التعبيرية، ومعماريتها البصرية الفذة، «المدرسة» الحروفية (وانطلاقتها من العراق مع جماعة البعد الواحد)، وإن لم تتبلور بشكل مؤسس على أنها مدرسة بكل أبعادها بقدر ما غلبت عليها سمة الحركة، إلا أنها تظل توجهاً لم يخرج من المطابخ الخلفية للفنانين الأوروبيين، بل أينعت من قراءة حصيفة للماضي التراثي للغة العربية، باعتبارها معطى اعتبارياً، قبل أن يكون وجودياً للشخصية العربية. أي إنها نبعت من الجذور العربية التي أعلت من الحروفية وفن الخط، بل إنها لترتبط ارتباطاً وثيقاً بالبعد الصوفي الطامح إلى التعالي والرقي والقادم من عوالم غيبية متجردة، يقول الشيخ الأكبر ابن عربي: «الحروف أمة من الأمم، مخاطبون ومكلَّفون، وفيهم رُسُلٌ من جنسهم، ولهم أسماء من حيث هم، ولا يعرف هذا إلاّ أهل الكشف من طريقنا، وعلم الحروف أفصح العالم لساناً وأوضحه بياناً». وقد سبق للفنان العراقي جميل حمودي أن أعلن أنه قد استلهم الخط العربي هروباً من التأثيرات الأجنبية.
وقد تأسس الفن العربي الحديث، من خلال تلك التصادمية بين الأنا والآخر، ومحاولة الخروج عن البطريرك والأب الغربي، وذلك من خلال البحث عن هوية فنية مغاربية ومشرقية خاصة... هذه التصادمية جعلت الفنان العربي يجد نفسه بين ثنائية «العربي/الغربي» أو «الأنا/الآخر»، مما شكل لديه التباساً كبيراً في مفهوم الهوية الفنية وكيفية صياغة هوية خاصة. فكان من الفنان العربي إلا أن يعود إلى التراث بعدما تبيّن له أنه قد سبق وشكل ريادة فنية -ومعمارية- سابقة، يمكن استخلاص هويته الفنية منها مع الحفاظ على ما تحصله من الفن الغربي ومدارسه. على خلفية هذا تأسس جيل من الفنانين المعاصرين بأفكار ورؤى فنية نابعة من هذا الصراع الإيديولوجي «الغربي/العربي».
الذات والهوية
مع نهاية الأربعينيات، ظهرت تيارات واتجاهات في الأدب والفن، تبحث عن تجديد الخطاب، وعن وعي رصين بالذات والهوية، وعن خطاب سماته الأساسية عدم الاستعارة، والصدور عن القدرة على تركيب مدركات جمالية يمكن البناء عليها، لتأسيس نظرة خاصة للفن، مثل ما حصل في الشعر الحديث، حيث تم كسر بنية عمود القصيدة وإيقاعها الخليلي، لفائدة القصيدة التفعيلية ومن ثم شعر النثر، ما فتح آفاقاً جديدة للشعراء العرب، وجعلهم يحلقون في حرية خلق جماليات جديدة غفيرة.
ما ميّز المدرسة الحروفية، انتشارها على طول الجغرافيا والزمن العربيين، حيث عرفت انتشاراً واسعاً وتعدد مسالك المشتغلين عليها، سواء على مستوى التنظير أو الممارسة الفنية العالمة، وقد كان لجماعة البعد الواحد، دور أساسي في الرُقَي بهذه المدرسة وإيصال أطروحاتها التعبيرية عربياً وعالمياً، عبر ما صار للخط العربي كعلامة من رمزية استيتيقية، فإن كان الحرف يعتمد على البعد الواحد، وهو يعني أن الوجود يتحقق من الحجم إلى أصله الشكلي، ومن الشكل إلى أصله الخطي، ومن العالم الخارجي إلى طبيعته الروحية، بوعي روحاني، كما يقول كاندانسكي، فإن المدرسة الحروفية قد اشتغلت عليه بخلفية منهجية لتقف على الدلالات المتفردة له، فهو لا يحد بزمان، أو مكان، بقدر ما يرتبط بتعدد أشكاله وصيغه، وطرائق تعامله، ورسمه، واستخداماته، وأفكار المشتغلين عليه، وقد اتبع الفنانون العرب أربعة اتجاهات في استلهامه:
- استلهام جمالية للحرف والخط العربي.
- استلهام رمزية الحرف العربي.
- استلهام القيمة التأويلية للحرف العربي.
- استلهام القيمة التوضيحية للخط العربي.
إننا إذ نتكلم عن الحروفية مع جماعة البعد الواحد، كأول مدرسة استلهمت الخط العربي واهتمت بتطويعه، من أجل تطويره، وإدخاله في عالم الفن التشكيلي المعاصر، فإننا نستحضر أسماء بارزة ممن منحت التشكيل العراقي ريادته التاريخية على هذا الصعيد (على رأسهم التشكيلي شاكر حسن آل سعيد)، إذ لا نكاد نجد بلداً عربياً لم يصل إليه هذا المد (من سوريا، محمود حماد ونعيم إسماعيل وسامي برهان.... ومن لبنان، عادل الصغير وعارف الريس وحسين ماضي... ومن العراق ضياء العزاوي ومهدي مطشر... من مصر، حامد عبد الله ويوسف سيده... ومن المغرب، جيلالي الغرباوي وأحمد الشرقاوي وعبد الله الحريري... ومن تونس، نجا المهداوي ونجيب بلجوجة... ومن قطر يوسف أحمد... ومن الجزائر محجوب بن بللا، ومن الإمارات المتحدة محمد مندي وعبد القادر الريس...)، فهذه الجماعة لها ريادة في مدرسة الحروفية العربية، بما طوعت به الحرف وتوزيع اللون على طول السند ببراعة لافتة. فقد بحثت هذه المدرسة على الانطلاقة من الهوية والذات وصولاً إلا العالمية، إنه معطى نابع من فرادة الطرح الذي عملت عليه هذه المدرسة التي نستحضرها هنا للتذكير أنه لا يمكن الاستثمار في فن خالص، انطلاقاً من قوالب جاهزة أو من محاكاة عن أطروحات معلبة ومستوردٌ نسيجها بالكامل، بل بالاشتغال الرزين والامتهار في البحث مع تجديد أدواته باستمرار، يستطيع التشكيل العربي أن يجد له موطئ قدم في واقع تحققه، وقدرة على مجابهة الأسئلة الجمالية التي تجترنا جميعاً في واقع اليومي والعربي.
نحو حروفية متعددة:
من الاتجاهات التي ساهمت إذن، في مرحلة الانعطاف وكانت فاعلة في ذلك والإسراع في بلورة تصور فني مغربي، نابع من المحيط والتراث المغربي، الحروفية. فالخط أداة الحروفيين ووسيلتهم الأولى للتعبير، ليس إلا أداة للتعبير عن الباطن والدواخل، أي باطن الفنان من حيث إن الفن بالنسبة إليه نابع من الذات الباطنية، ومن الأعماق، ليعبر عن العالم الخارجي والداخلي في الآن نفسه. فقد شكل الخط بالنسبة للعرب - الإسلاميين طابعاً قدسياً لارتباطه بتدوين القرآن، بالإضافة إلى الشعر. فكانت ضرورة العناية بالكتابة وتزيينها وتحسين الخطوط، والابتكار فيها وتطويرها، فسميت الخطوط بأسماء المدن والمراكز الإسلامية، بعد الإسلام التي نشأت فيها، مثل مكة والمدينة والكوفة والبصرة. بينما البحث في المراحل التاريخية لتطور تلك الحروف ليس أمراً هيناً، لندرة النقوش العربية قبل عصر النبوة، وعدم احتواء النقوش منها على جميع الحروف، ولكن يمكننا في ضوء دراسة النقوش العربية التي عثر عليها من تلك الفترة، أن نرجع الكتابات العربية إلى أصلين اثنين، هما التربيع والتدوير، وهما من أصول الكتابة العربية في جاهليتها وإسلامها. فلكلّ حضارة شكل كتابتها الخاص بها النابع من ثقافتها الخالصة ورؤيتها للعالم، وطريقة فهمها له وتعبيرها عنه. أما في الفن التشكيلي، فقد عرف هذا الفن، الخط كشكل استيتيقي، عند العرب في أواسط الستينيات وأوائل السبعينيات.
يذهب كل من عبد الكبير الخطيبي ومحمد سيجلماسي في كتابهما باللغة الفرنسية «فن الخط العربي الإسلامي»، وتحديداً في الفصل المعنون «الخط العربي والتصوير المعاصر» إلى تقسيم هذا التوجه التشكيلي العربي الجديد إلى أربعة أصناف:
- الحروفية الهندسية: التي تعمل على التجزئة التشكيلية للأبجدية العربية وإعادة تكوينها وفقا لرؤية دينية.
- الحروفية الزخرفية: التي هي بمثابة امتداد لفن الأرابيسك ولتشكلات الخط الكوفي بصفة خاصة.
- الحروفية التجريدية: التي تخلص الحرف من هويته المرجعية ليُساهم فعلياً في بناء الأثر، بإدماجه في نسيج ثقافي وحضاري معاصر.
- الحروفية الترميزية: التي تشبع اللوحة بالعلامات التمائمية والتعويذية. (1)
وإن لم تشكل الحروفية مدرسة بالمعنى الدقيق للكلمة، وإن هي بقيت منفتحة على مختلف الآراء والاتجاهات، ولم تجمع بين ممثليها روابط نظرية محددة أو لقاءات مجدية كلقاء جماعة البعد الواحد في بغداد. إلا أن ثمة تياراً عربياً حروفياً سرعان ما تكوّن. وبات من الشمول، بحيث إنه أصبح، على الرغم من تباين النتائج، الأكثر تمثيلا للحركة الفنية المعاصرة في البلاد العربية. فانضم إلى هذا التيار فنانون كثر: منهم من كانت له أكثر من تجربة، ومن ثم تحول إلى الحروفية بحثاً عن خصوصية قومية، أو تلبية لشعور بضرورة تعميق الروابط بالمعالم التراثية، ومنهم من كانت له تجربته الخاصة أو تأثر بالتجربة التشكيلية لبعض ممثلي الفن الغربي، أمثال بول كلي وخوان ميرو.. هكذا تصاعد، في السبعينيات والثمانينيات، عدد الفنانين الحروفيين وأولئك الذين جعلوا من الخط فرادة تشكيلية أساسية (2). ومن ثم تعددت الأسماء التي بلغت بالحروفية مبلغ المعاصرة والخروج بمها من عوالم الصباغة والنحت إلى التوجهات المعاصرة من أنستلايشن وفن فيديو وغيره... فالحروفية كما يفهمها، ويحددها ويدافع عنها، إيزيدور إيزو، أحد أبرز ممثليها الغربيين، حركة طليعية شمولية تهتم بكل مسارات الثقافية وتسعى إلى تعديل بعضها جذرياً. إنها بهذا تنحو نحو الخلق والإبداع والتجدد والاكتشاف، وتجريب وسائل جديدة فلسفية وعلمية. إنها محاولة لوضع مفاهيم جمالية معاصرة ومغايرة. وهنا تجدر الإشارة إلى أن جزءاً كبيراً مما طرحته الحروفية من آراء قد شكل أحد منطلقات الفن المفاهيمي الأساسية. فإن كانت الحروفية قد أرست سواعد الفن حديث بالمنطقة العربية، فهي شكلت تمهيداً أساسياً للفن المعاصر.