حكومة نتنياهو... والصرامة الأميركية المفقودة
عندما كشفت مصادر دبلوماسية أن الولايات المتحدة تخلت عن جهودها لإقناع إسرائيل بتجميد الاستيطان لم يدرِ العديد من الذين سمعوا الخبر ما إذا كان عليهم الضحك، أم البكاء، لا سيما بعدما اتسمت السنتان الأوليان من العلاقات الأميركية الإسرائيلية بقيادة أوباما بالجمود، بل وصلت في مرات عديدة إلى طريق مسدود، لذا يتعين على الإدارة خلال العامين المتبقيين من فترتها في البيت الأبيض الاستفادة من فشل التجربة الماضية، فإخفاق الإدارة الأميركية مع إسرائيل لا يقتصر فقط على تجميد الاستيطان باعتباره تمدداً للاحتلال على الأراضي الفلسطينية أسمته منظمة "هيومن رايتس ووتش" في أحد تقاريرها "بنظام الدرجة الثانية" الذي "يفرق بين الناس ولا يعدل بينهم". بل يمتد الفشل الأميركي أيضاً إلى اختبار مدى التزامها الفعلي والحقيقي بمقتضيات الوساطة النزيهة والمنصفة، وبخاصة أن البديل المطروح حالياً بالمرور مباشرة إلى القضايا النهائية لن يكون سهلًا، إذ من الصعب التوصل إلى اتفاق حول عودة اللاجئين، أو احتلال القدس وكيفية التعامل مع قضية الاستيطان التي تكاد تبتلع المدينة وتغير هويتها.
لكن رغم الصعوبات المعروفة منذ البداية، علق الكثير من المراقبين في الشرق الأوسط وعلى رأسهم الفلسطينيون آمالاً عريضة على قدرة الإدارة الأميركية الحالية ومضيها قدماً في الضغط على إسرائيل، والتوصل إلى تسوية مرضية للجميع.
والحال أن ذلك لم يتحقق، فحتى أثناء التجميد الأول للاستيطان، الذي وافقت عليه إسرائيل ودام عشرة أشهر كانت القدس مستثناة منه، بحيث تصاعدت وتيرة البناء في ضواحيها.
وبصفة عامة شهدت السنوات الماضية منذ التوقيع على اتفاق أوسلو وبدء عملية السلام تنامي حدة الاستيطان رغم ما ينص عليه الاتفاق من ضرورة وقفه تمهيداً لقيام دولة فلسطينية، فقد قفز عدد المستوطنين خلال التوقيع على الاتفاق من 200 ألف مستوطن إلى ما يفوق 500 ألف حالياً بعد مرور كل هذه السنوات بسبب استمرار إسرائيل في البناء، وفي قضم المزيد من الأراضي الفلسطينية، إذ في الوقت الذي كانت فيه الدولة العبرية تدعي أنها تسعى إلى السلام، وتدخل في مفاوضات عقيمة ومتكررة مع الفلسطينيين كانت الجرافات تعمل على الأرض لفرض الأمر الواقع.
لكن يبدو أن السيل قد بلغ الزبى ولم يعد بإمكان أي قائد فلسطيني حريص على حد أدنى من الشرعية الاستمرار في التفاوض مع إسرائيل والجلوس معها إلى طاولة واحدة برعاية أميركية وفي الوقت نفسه، يتواصل فيه البناء الاستيطاني، والحقيقة أن الاستراتيجية الأميركية التي بدأها أوباما بعد قدومه مباشرة إلى البيت الأبيض والتي سعى من خلالها إلى ممارسة الضغط على إسرائيل لوقف الاستيطان لم تكن مجدية منذ البداية إذ كيف توافق إسرائيل على وقف ابتلاعها للأراضي الفلسطينية لمجرد أن الرئيس الأميركي طلب منها ذلك. وعندما أدرك أوباما هذا الأمر، حاول طرح محفزات وإغراء إسرائيل، وهو ما أعلنته وزيرة الخارجية الأميركية، صراحة على المسؤولين الإسرائيليين بحيث بدا للعديد من المراقبين أن أميركا تحاول رشوة إسرائيل علها تقبل بتجميد ولو مؤقت للاستيطان، لكن المشكلة أنه لكي تغير دولة ما سياساتها المنتهكة للقانون الدولي والإجماع العالمي لا بد من تحريك العصا وليس التلويح بالجزرة، وهو ما كان غائباً تماماً في العرض المقدم لإسرائيل الذي يمنحها صفقات أسلحة سخية ودعماً سياسياً غير محدود.
غياب العصا مقابل تقديم الجزرة كان له رد فعل متوقع هو رفض إسرائيل للعرض الأميركي ورده في وجه إدارة أوباما لتستمر في إعلان مناقصات البناء في محيط القدس وباقي مناطق الضفة الغربية ليتلاشى بذلك أي أمل في تمديد تجميد الاستيطان، وهكذا تكون الرسالة الواضحة التي وصلت إلى الفلسطينيين بعد فشل محاولات الإدارة الأميركية الضغط على إسرائيل، أنه لا يمكن التعويل على وساطتها النزيهة.
فالولايات المتحدة، لا تضيع فرصة لمكافأة السلوك الإسرائيلي، كما أن الدولة العبرية لا تفوت الفرصة لإحراج حليفها الأميركي، فهل تعتبر أميركا من هذا الخطأ وتسعى إلى تحسين وساطتها لحل النزاع؟ للاستفادة من الأخطاء على الإدارة الأميركية ألا تتوقع بأن إسرائيل ستتجاوب مع مطالبها دون ضغوط حقيقية تطال القطاعات الاقتصادية والدبلوماسية، بحيث يتعين على الولايات المتحدة إبداء موقف حازم إزاء نتنياهو وحكومته اليمينية التي شعرت بالقوة بعد خروجها منتصرة من المواجهة مع الإدارة الأميركية.
وفيما يعتقد البعض أن فشل أميركا في تجميد الاستيطان يفتح أمامها الباب لطرح خطة بديلة يشكك البعض الآخر في قدرة الولايات المتحدة على فرض حلول في الوقت الذي عجزت حتى في وقف مؤقت للبناء الاستيطاني، فالخطأ الأكبر الذي ارتكبته الإدارة الأميركية على مدار السنتين الماضيتين ليس في طرحها وقف الاستيطان كأولية لاستمرار عجلة السلام، بل في تقاعسها عن توظيف نفوذها وتسخير قوتها للضغط على إسرائيل وإرغامها على وقف أنشطتها الاستيطانية.
ورغم الأخطاء المتكررة لا يبدو أن إدارة أوباما اعتبرت أو تعلمت الدروس فقد جاء خطاب، هيلاري كلينتون، في معهد "بروكينجز" مخيباً للآمال عندما أصرت على استمرار النهج نفسه، وعدم تغيير أميركا لسياساتها تجاه إسرائيل، مكتفية بتكرار العبارات المعروفة عن السلام وعن الأمل في مستقبل أفضل، هذا الجمود في الموقف الأميركي هو ما دفع بعض دول العالم مثل البرازيل والأرجنتين وبوليفيا إلى اتخاذ قرارهم بعدم الانتظار أطول والمسارعة إلى الاعتراف بالدولة الفلسطينية، فماذا كان رد فعل الولايات المتحدة على تحرك دول أميركا اللاتينية؟ في الحقيقة أنه لم يخرج عن المعتاد إذ وافق الكونجرس على استصدار قرار يعارض فيه إعلان الدولة الفلسطينية وهو ما يعيدنا مرة أخرى إلى مدى الهوة الشاسعة الفاصلة بين واشنطن والمجتمع الدولي.
يوسف مُنِّير
المدير التنفيذي لمركز فلسطين في واشنطن
ينشر بترتيب خاص مع خدمة
«إم. سي. تي إنترناشونال»