في الذكرى المئة والأربعين لولادة الشاعر اللبناني بشارة الخوري (الملقّب بالأخطل الصغير)، نراجع قصائده، وحياته، ورسائله ومقالاته، فنجد أولاً، أنه من روّاد الجهاد ضد الاستعمار العثماني، وكذلك ضد الانتداب الفرنسي. ملتزم حر (غير حزبي طبعاً)، غير مذهبي، غير عائلي، عروبي. وحده يقارع الاحتلالات والظلم، ويُطارَد من بلدة إلى بلدة من قبل العثمانيين الذين حكموا عليه بالإعدام. ثمَّ يطارده الانتدابيّون الفرنسيون.. بدأ بالصحافة؛ أسّس جريدة «البرق» ولما يبلغْ سن الرشد، وكانت منبر معارضته، ومواقفه الحادة، وكذلك شِعره ومقالاته النقدية، وقصائد بعض الشعراء آنئذٍ. أُغلقت جريدته عدّة مرّات. وعادت عدّة مرّات. (تأسّست عام 1918 وحتى 1932).
ارتبط شِعره بالواقع المعيش وبالأحداث الكبرى، من الاستعمار العثماني فحرب 1914 وويلاتها والمجاعة في لبنان، وتعليق المشانق على يد جمال باشا الجزار... وبالحياة الاجتماعية، الفقر، الجوع، الظلم، الفوارق... كذلك الانفتاح على العالم العربي (وهو عروبي منفتح)، رثى المناضل المصري الكبير سعد زغلول، والعديد من شعراء عصره كأحمد شوقي وحافظ وخليل مطران والزهاوي والجواهري، وغَنَى «النيل»، ومصر... وطبعاً لبنان بأحواله وأزمنته الصعبة... ودمشق.
شاعر الواقع بالمدَد الصحافي، وكذلك بالشِّعر، والمقالات النقدية النارية، والرسائل، واستمدّ من مواضيعه، وتمرّده، «فلسفة» تشبهه، أو يشبهها.
يشبه ربّما جرير (في رقّته وعنفه) والأخطل الكبير في العصر الأموي (استعار اسمه، بحدّة هجائه)، أو البحتري في بلاغته، أو عمر بن أبي ربيعة في غزله، أو طرفة في تمرّده وصفائه، أو حتى لبيد في تظليله اللغة، أو المتنبّي في جانب فخامته (في قصائده المناسبة التي كان يشارك فيها).
لكنّه، وبرغم «عدم خروجه على بيت الشعر العربي كما فعل الشاعر العبّاسي الكبير أبو تمّام: أي الغموض)، فإنّه احتل حيّزاً وإن محدوداً في التميّز «الحداثي»، الذي قام على الجمع بين الموروث الشعري العربي، والتأثر بالشِّعر الفرنسي كفيكتور هيغو، ولامرتين، وموريس ماترلنك، (ترجم بعض القصائد الفرنسية).
وبهذا، يلتقي الموجة الأولى من الشعراء الذين مهّدوا للحداثة: كأحمد شوقي، ومطران، والزهاوي، والبارودي والجواهري وشبْلي الملاط وعلي محمود طه وشعراء المهجر، (من دون أن ننسى جبران ونعيمة) والشابّي..
فلنقل إنه جزء من هذه الإطلالة المزدوجة: نظرة جديدة غير معادية للتراث، وانفتاح على الخارج من دون إحداث تغيير في بنية القصيدة العربية.
لكن، إذا كان الأخطل ذا جذور ضاربة في صميم القصيدة العربية التقليدية، فإنّه برغم ذلك قد لا يجاري أحمد شوقي الأكثر اختراقاً لما سمّي «عمود الشعر العربي»، بلغته، وبلاغته المركّبة، وبيانه الفصيح، بل إن شوقي استفاد من تأثراته الفرنسية بطريقة أوسع من الأخطل: تأثر بفيكتور هيغو بمنحاه الملحمي، وبِلامارتين بعاطفيّته الغنائية.
لكن الإنجاز التجديدي الأهم هو الذي حقّقه شوقي في المسرح الشعري: فتأثره بـرايس وكورنيل خصوصاً، تمكّن من تطويع اللغة العربية للمسرح، للموضوع، للشخصيات، للحوار، للعقدة... ونظن أن التجديد «اللغوي» البارز عند شوقي، هو الذي افتتح درامية جديدة ماثلة في أعماله المسرحية من «كليوباترا» إلى «قيس وليلى»... ومن ناحية أخرى، نرى أن خليل مطران أوسع وأرحب في علاقته باللغة وتأثراته الفرنسية: فهو رومانطيقي قبل الرومانطيقيين العرب، وهو، مع الأخطل، أول مَنْ أسقط على القصة التاريخية قضايا الحاضر، كما في «بزرجمهر».
والأخطل أيضاً، عندما استعار عناوين بعض القصائد الغزلية لعمر من أبي ربيعة، كقناع يهاجم فيه العثمانيين، والفرنسيين. وهذا ما شكّل ريادة في الشعر والمسرح: العودة إلى مواضيع التراث للهروب من الرقابة والمطاردة، وسياسات المنع... والقمع.
كما وجدنا بعد ذلك عند سعدالله ونوس (سوريا)، محمود دياب، سعد أردش (مصر)، عبد العزيز السريع (الكويت)، (والكوكبة الشعرية التي ذكرنا)، أطلّت على حداثة القصيدة، في حدودها التوفيقية، وفي أطرها الرسمية... أي أنها لم تسعَ لا إلى ضرب عمود الشعر العربي وبنيته، ولا الثورة على مفهوم القصيدة نفسها، ولا حتى الخروج على مواصفات العناوين: المدح، الهجاء، الفخر، الغزل...).
من هنا، نجد أن «المرحلة الثانية» (هذا إذا سمّيت ثانية)، تطلّ مع إلياس أبي شبكة، وسعيد عقل، وصلاح لبكي، وسعيد عقل، وأمين نخلة. والشابّي وعلي محمود طه، فبعض هؤلاء، كرّسوا الصراع بين الرومانطيقية بشروطها في القرن التاسع عشر، (مع هيغو، ولامرتين)، والرمزية (مع بودلير، فرلين، مالرمه، وصولاً إلى بول فاليري): أي إن الرومانطيقية تخطت الغنائية العاطفية المعروفة في الشعر العربي، قديمه وحديثه، إلى الرومانطيقية ببنياتها كمدرسة، وكذلك إلى الرمزية كمدرسة ترى إلى اللغة الشعرية، بطريقة مغايرة. وقلنا بذكر المقارعة التي اندلعت بين أبي شبكة الرومانطيقي، (القصيدة تولد كاملة كما الطفل؛ أي الوحي من ربّة الشِّعر)، وبين سعيد عقل، (القصيدة المنحوتة المصنوعة الواعية، ذات الإيحاءات النفسية والمتخيّلة، أي بعيداً عن التعبير المباشر: التعبير بالرموز.
بمعنى آخر طُرحت اللغة، كقضية للمرّة الأولى في الشعر العربي... كيف تكون اللغة هي المحور وليس الموضوع، بل إن القصيدة عند بعضهم تجاوزت الموضوع المحدد أو المعنى المحدّد، إلى تعددية القراءة في النص... أي ما بعد النص، أو ما في لا وعي النص (عند السورياليين وقبلهم الرمزيين).

السؤال والقطيعة
لكن هل يعني كل ذلك، أن «الثورات» الشعرية (الدادائية، الرمزية، السوريالية..)، تكرّست على حطام شعر بدايات القرن أو منتصفاته، أو المراحل التأسيسية بعدها؟ وتحديداً، هل بات الأخطل الصغير، والكوكبة: شوقي، مطران، بدوي الجبل، نديم محمد، حافظ).. عمر أبو ريشة، الشابّي... إلخ، وكأنها كانت مرحلة منقطعة عما تلاها؟
هذا هو السؤال؟ أطرحه هنا لأن هناك من الحداثيين مَنْ رأى أن شعرهم، حلَّ محل كل ما سبقهم: من الجاهلية حتى مطلع القرن الماضي ومنتصفه، وهذا خطأ بنيوي. وكأنَّ هناك شعراً يحل محل شعر! أو شاعراً محلَّ شاعر؟ فالأخطل الصغير نركّز عليه لأنه موضوعنا، مهّد في الصحافة (النثرية والشرعية، وفي خصائص بعض شعره لما سمّي شاعر الحداثة. ويمكن التوقف عند بعض هذه العلامات وإن محدودة. عند الأخطل، متجاوزاً لكثير من دراسات أكاديمية مقولبة، وضعت أحياناً الأخطل وكباراً معه في خانات مغلقة:
– قلّما ركّز الضوء على معاني تاريخ الأخطل الصحافي الذي ورد كموضوع عابر وعادي عند النقاد. لكن الأخطل فتح الأبواب على الصحافي الحر، المجازف بحياته، رفضاً لاحتلال، أو استعمار، أو انتداب، أو حكم جائر. كتب بأسلوب مباشر، صاعق، صافع، ضد العثمانيين والفرنسيين.... برغم محاولات بعض هؤلاء ترويضه.
إنها لحظة الصحافة التي تجازف بحياة أصحابها وكتّابها:
وهنا نتذكّر مئات، بل ألوف الصحافيين والشعراء والكتّاب والفنّانين، الذين سُجنوا أو اغتيلوا كشهداء للحرّية والسيادة... والديمقراطية.
فالأخطل مارس الصحافة كشاعر، ومارس الشعر كصحافي يدافع عن القيم الوطنية اللبنانية والعربية. ونرى في المقابل أن صحافيين ومثقّفين وكتّاباً باعوا أقلامهم وشرفهم للطغاة... مقابل أثمانٍ من المال أو المراتب.
لقد مارس الأخطل الصحافة، متجاوزاً كل ارتهان بالمذهبية، أو المناطقية، أو الأيديولوجية، حاضناً لبنانيّته كعروبته المتّصلتَين بلا فكاك.
سياسيّاً - إذا كان الأخطل لم ينتمِ لا إلى قبيلة ولا عائلة... ولا مذهب، فإنَّ شعره، والصحافة، لم يكونا أداة للتكسّب. فهو كسر تاريخاً طويلاً من شعر المديح المتكسّب في الشعر العربي وحتى العالمي. شعره منه. ورأيه منه. وهو وأصابعه مغموسة بقضاياه.
ممهداً بذلك لما سمّي، عنه ضلال، أو حق، المقاومة. فهو مقاوم بلا نصير، ضد الظلم والاستعمار... والاستغلال.

الكلمة الإنسان
شعريّاً - فالشعر بالنسبة إليه «أنبل» ما في الكون؛ وكذلك الكلمة «وهي الإنسان». وإذا كان بقي وفيّاً للقصيدة العربية الكلاسيكية، إلاّ، أن شعره يتمتع بخصائص لم تعدمها لا شعارات الحداثة، ولا التجديد، ولا التنوير:
1 – الصفاء في قصيدته، النقاء اللغوي، الذي وإن ذكّرنا ببعض شعراء السالف كجرير أو حتى طرفه، أو الموشحات، فإن هذا الصفاء أثّر في شعراء بعده: كسعيد عقل، أو صلاح لبَكي.
2 – الموسيقا الإيحائية: قد يكون مع صلاح لبكي والشابّي وجبران وشوقي، من شعراء الإيقاع: أي إن الموسيقا بعناصرها، الكيميائية، ليست مجرّد عنصر خارجي مرتهن لمتطلبات البحور أو الحالات الجاهزة، بل جزء من الإيحاء: أي كعنصر داخلي يتجاوز تقدير المعنى المباشر إلى تكوين مناخ (وهذا ما عرفناه عن پول رلين)، ليلتقي «الرمزيين» وإن من دون قصد.
ومَنْ لا يعرف أن كبار الموسيقيين العرب لحّنوا قصائده، وغنّاها كبار المغنّين والمغنّيات: من عبد الوهاب، إلى فريد الأطرش، إلى أسمهان، إلى فيروز ونور الهدى.
3 – نجد عنده قصائد صنّفت العذرية أو الإباحية باكراً... ضمن ثنائية مفتعلة؛ بل أكثر استخدم الغزل نفسه، كقناع، لمواجهة العثمانيين والفرنسيين... والظالمين. وهذا لا يعني العودة إلى القصيدة الجاهلية التي تبدأ بالغزل والوقوف على الأطلال... ثم تهتدي إلى موضوعها. لا! إنها قصيدة مركّبة ذات وحدة لغوية وموضوعية متكاملة.

مختارات شعرية
لبنان في شعره
إيه لبنان والجداول تجري
فيك برداً، فتنعش الظمآنا
إيه لبنان، والنسيم عليلا
يتهادى، فيعطف الأغصانا

الانتداب
لبنان ما لفراخ النسر جائعة
والأرض أرضك أعلاها و أدناها
لو مسّ غيرك هذا الذل من أسد
لعضّ جبهته سيف وحنّاها
غنّيت للشرق الجريح، وفي يدي
ما في سماء الشرق من أمجاد

سعد زغلول
قفْ في ربى الخلد واهتف باسم شاعره
فسدرة المنتهى أدنى منابره
ما للملاعب في لبنان مقفرة
وللمناهل عطلاً من حرائره
أودى القريض فللأحزان ما لبست
على سليل الدراري من عباقره
سألتنيه رثاء، خذه من كبدي
لا يؤخذ الشيء إلا من مصادره

يا مصر
يا مصر ما نظم الجهاد قصيدة
إلا استهلَّ بذكرك الفوّاح
أو سال جرح من جبين مجاهد
إلا عصبت جراحه بجراح

العراق
قل للعراق أيقضي شيخ العراق اغترابا
يؤلف البؤس منه في كل يوم كتابا
وقد بنى لك بيتا من العلى جوابا
بيتاً بناه وبيتاً أقام فيه خرابا