الماء... إكسير الحضارات
ما إن تعبر بقدمك اليمنى إلى قاعة حي قصر الحصن الثقافي في أبوظبي، حيث يقام معرض “المياه: H2O = الحياة” حتى تدخل في الأزرق، تنغمس فيه تماماً كما لو أنك في بحر تحتضنك أمواجهه معلنة لك بهاءها المعرفي وجمالها الفني. وسرعان ما يأخذك الشغف المعرفي إلى واحد من التحديات الكبرى التي تواجه الإنسانية والمتمثلة في كيفية الحفاظ على الماء في كوكبنا المهددة بعض أنحائه بالعطش. وإذ تبدأ في قراءة هذه الصورة المعرفية والجمالية التي يضعك المعرض في أعماقها تستشعر عظم المسؤولية التي تقع عليك كفرد وكمجتمع وكإنسان في المجتمع الكوني تجاه سائل الحياة هذا الذي يتأكد لك أنه أكثر من جزيئين من ذرات الهيدروجين متحدتان بذرة أوكسجين... بل أوكسجين الوجود وسرّ الحياة الأكبر على الأرض... وأن هذا السائل العجيب النبيل الذي يعرف بأنه أعز مفقود وأهون موجود هو عصب الحياة لجميع الأحياء على هذه البسيطة، وغيابه أو فقدانه يعني شيئاً واحداً: الموت.
تلك هي المشاعر الأولى التي تتخلق في عقلك ووجدانك وأنت تعبر إلى المعرض الذي يستمر لغاية الخامس من يناير المقبل والذي يمثل واحة معرفية شبه شاملة عن المياه، قبل أن تدخل في صورة جمال كوني تنفتح آفاقه على معلومات شتى ومعارف متنوعة كلها تخص هذا الشريان الذي يضخ الحياة فينا وفي كل ما حولنا، لتكشف بعد جولة معرفية وعلمية وثقافية ثرّة قوة الماء وعظم الدور الذي يقوم به في الطبيعة وفي حياتنا اليومية.
أما على المستوى التقني أو طريقة العرض التي يقدم المعرض معلوماته من خلالها فهي أيضاً موحية وتراعي مستويات الجمهور ووعيه وثقافته. معلومات تدرك بالنظر وأخرى باللمس وثالثة بالقراءة ورابعة بممارسة ألعاب يمكن تسميتها بـ “ألعاب ثقافية” يستمتع بها الأطفال وربما الكبار أيضاً وهم يتعلمون ويعانقون المعرفة، والممارسة كلها تصب بالطبع في إعمال العقل والتدبر. فالمعرض يستخدم بيئات تفاعلية وثلاثية الأبعاد ليسلط الضوء على التحديات التي يواجهها البشر في الإدارة المستدامة لهذا المورد المحدود الواهب للحياة واستخدامه. ويكشف لنا عبر أكثر من 90 موضوعاً ونموذجاً الجوانبَ الثقافية والروحية المتعددة للمياه، بما في ذلك الدور الذي أدّته في قيام الحضارات في شتى أنحاء العالم. فيما تُبرز الحيوانات الحية والنماذج التفصيلية المجسمة قضايا جودة المياه ووفرتها المُلِحَّة التي تواجه المجتمعات والأنظمة البيئية حول العالم، كما تُبيّن مدى أهمية هذا المورد المحدود والثمين. والمعرض كله مشغول بدقة علمية وتاريخية، وتستخدم فيه الأساليب التثقيفية أو التعليمية التي تجعل منه مكاناً ممتازاً للطلبة ودارسي العلوم والباحثين عن المعرفة.
كلمات ضبابية
تستقبلك شاشة ضبابية تنثّ عليك بخاراً مائياً يتساقط كما شلال الضوء. تخطف بصرك دلالة لفظ الماء التي تعرض باللغات التايلندية والتركية واليونانية والروسية والإيطالية والسنسكريتية والمدغشقرية والكورية والبرتغالية والصينية والسواحلية والألمانية والعربية والملايوية والفرنسية والإنجليزية على شاشة الضباب fogscreen المصنوعة من مياه الصنبور والموجات فوق الصوتية.
تتحسس ثيابك... لم يعلق بك شيء. لم تبتل لكنك تستشعر بللاً في مكان ما من روحك ووجدانك. لعله الضوء المعرفي الذي يخترق وعيك هو ما يجعلك تتساءل عن جمال الماء وهشاشته قبل أن يأخذك المعرض في تجربة معرفية تنسيك لساعات همومك الشخصية وتزج بك في همٍّ إنساني عام تشعر أنك جزء منه.
من معرفة إلى أخرى تتنقل بين أرجاء المعرض، ترى نماذج من الحياة البرية والبحرية وتتعرف إلى دورة حياة الماء وحالاته الثلاث: الصلبة والسائلة والغازية، وما يتعلق بها من مفاهيم علمية، كل ذلك عبر خطاب بصري واستبصاري يغوص بك في عوالم مائية.
ثمة مجسم للكرة الأرضية يصافحك. يدور فتدور عيناك معه لتشاهد ما يعرض عليه من خرائط وصور للأرض التقطت بواسطة الأقمار الصناعية، ناهيك عن نموذج ضخم لواد ضيق يمكنك عبوره لتقرأ قصة الماء على الأرض ونشأة الحياة عبر عينات جيولوجية مختلفة... فيما يدك تتلمس منحوتة تعكس واحدة من الخصائص المدهشة للماء: التواجد في الحالات الثلاث عند درجة حرارة الغرفة. هنا، في معرض كهذا، تستمع إلى قصة الحياة على الأرض. يتكشف لك كيف استطاعت النباتات والحيوانات على مرّ العصور، وبما وهبها الخالق من قدرات وإمكانات من التكيف بطرق مدهشة مع ندرة المياه أو وفرتها، أو الحدود القصوى لدرجات الحرارة، أو الحياة في المياه العذبة أو المالحة. وما الأسماك والأسماك القافزة الحية سوى نموذج على بعض السبل التي تتغلب بها الكائنات الحية على تحديات العيش داخل المياه أو خارجها. ناهيك عن صورة مضاءة عن حياتنا نحن أيضاً، وعلاقتنا بالماء عبر معروضات تصف محتوى أجسامنا من المياه واحتياجاتنا اليومية منها، وحقائق مائية تزخر بها جدران المعرض صورة وكتابة.
ثمة مجسمات ولوحات وأشكال تفاعلية ومشغولات يدوية، تسرد بصمت ماضينا العتيق، حضاراتنا التي قامت على حواف الأنهار ومساقط المياه. اكتشافنا للري وإنشاء السدود واستثمار الماء في الأعمال النافعة للبشر. يلفتك اختبار مصمم على شكل لعبة تقيم معلومات الرواد عن كميات المياه المستخدمة لصنع منتجات يومية او مواد غذائية أو محاصيل زراعية. تشارك في اللعبة لتفوز بمعلومة كنت تجهلها أو تتأكد لك صحة معلوماتك، ومعها تتضح لك التبعات البيئية للكيفية التي نستخدم بها المياه.
ومع العرض التفاعلي لليافعين الذين يقومون بتركيب مكعبات مصورة في قصص تصف حياة الناس في المناطق القطبية والجليدية تشعر أن الماء في كل مكان. تتأمل نماذج تفصيلية مجسمة تعيد إنشاء الحياة في بحيرة “تونليه ساب” في كمبوديا، وهي بحيرة عذبة ذات نظام بيئي مدهش، ربما تتعرف عليه للمرة الأولى.
ترفع أوروبية شقراء وعاء مليئاً بالماء تماماً كما تفعل مئات الآلاف من النسوة في شتى بقاع الأرض للحصول على الماء، فيما الشاب المشرف على هذا القسم يشرح للزائرين أهمية الماء وضرورته وعراقته الحضارية التي تدلل عليها الآنية العتيقة والحديثة التي تشرح بلا كلام دور الماء في الحضارات ونشأتها، علاوة على قدرته المتفردة على إثراء تجربتنا الإنسانية. لكن الماء ليس واحداً، ثمة ماء صحي وماء ملوث، عذب ومالح، يصلح للحياة وقد ينقل المرض وفي الكوليرا نموذج بالغ السفور عن الأمراض التي يمكن أن يسببها الماء الملوث. لهذا، يكشف لنا مجهر فيديوي عن قليل من العضويات الدقيقة التي يمكن أن توجد في قطرة ماء واحدة. فيما تبين لنا عروض تفاعلية أخرى، بما في ذلك مقطع فيديو ثلاثي الأبعاد، أثر السكان على إمدادات المياه الجوفية وكيف يمكن أن تختزن الصخور الصلبة المياه في الظاهر. ويسلط نموذج مجسّم مفصّل للبحيرات العظمى الضوء على أهمية الدور الذي تلعبه الأراضي الرطبة (السبخات) كأدوات طبيعية منقّية للمياه، تلك الأراضي التي خضعت لجور الإنسان جهلاً منه بدورها وأهميتها فطمرها أو ردمها قبل أن يكتشف منافعها.
هنا تطلع على البال قصيدة المعري التي يخاطب بها السحابة كي تتريث لتجود بمائها على الأرض العطشى، لكونها أمطرت على الأرض السبخة التي لا تنبت ولا ينفعها الماء، فراح ماؤها هدرا:
رويدك يا سحابة لا تجودي
على السبخات، من جهل هَمَيتِ
لم يكن الشاعر يهدف من خلال بيته الشعري إلى تقديم معلومة علمية أثبت العلم خطأها بل كان يوظف هذه المعلومة شعرياً لتقول غرضاً فلسفياً عرف عن المعري الاهتمام به؛ ربما ثبت خطأ المعلومة العلمية لكن المعنى الكامن في بطن النص الشعري لا يزال صالحاً وقابلاً للحياة، فالجود والكرم والعطاء حتى في القرن الحادي والعشرين ينبغي أن تكون في مكانها الصحيح وبناء على معرفة.
ماء الحضارات
تذكرك المشغولات اليدوية، ومن بينها إبريق ماء يرجع إلى الحقبة السومرية قبل 5000 سنة، بأن واحدة من أقدم الحضارات البشرية في العالم تدين بنشأتها لمياه نهري دجلة والفرات... تسترجع في رأسك صوراً بثتها القنوات الفضائية مؤخراً عن شكوى أحفاد السومريين المعاصرين من جفاف الأراضي وتراجع المنسوب المائي لنهر الفرات (!) فتدافع حسرة تنشب مخالبها في روحك وتقرأ تاريخ الماء في علاقته بالحضارات.
قامت الحضارات الإنسانية عند مصادر الماء وإليه يعزى زوال بعضها واندثارها. وقد لعب الماء دورًا مهمًا في نشأتها بحيث كان لها كما المشيمة للمولود، تسبح فيه وتورق وتطرح ثمارها العلمية والمعرفية والقانونية والسياسية وكل أشكال تنظيماتها الاجتماعية ونظمها البيئية التي لا تزدهر إلا في أجواء الاستقرار والتوازن التي يوفرها الماء. وقد أبدى الكلدانيون اهتماماً كبيراً به وعرفوا الأدوات والوسائل المستخدمة في حفر الآبار وتصنيع مواد البناء والمنشآت المائية وطرق استخدامها. واهتم به اليونانيون الذين درسوا الماء وظواهره وكلنا يتذكر دراسات أرسطو في السماء والآثار العلوية مبرزاً التحولات الحاصلة بين عناصر النار والهواء والماء والأرض وآلية التحول ودور الحرارة في أحداث ظاهرتي التبخر والتكاثف. وإلى سد مأرب يعود الفضل في حضارة اليمن الشهيرة التي دمرها سيل العرم. وغير بعيد عن النيل ومياهه قامت الحضارة المصرية القديمة.
وتقول موضوعات المحتوى المحلي للمعرض إن هذه المنطقة شهدت قبل ما يزيد على خمسة آلاف عام استيطاناً بشرياً في الكثير من المواقع الداخلية والساحلية، التي ظلت على اتصال مستمر مع حضارتي بلاد الرافدين والهند. وكان للماء دور حاسم في نشوء تلك الحضارات. وهذا ما يظهر جلياً في جزيرة أم النار وواحة الهيلي في العين ومنطقة البادية في الفجيرة وتل الأبرق (بين الشارقة وأم القيوين) ومجموعة أخرى من المستوطنات البشرية القديمة.
وتفصح الصور والمعلومات الخاصة بالإمارات عن حضور الماء في تراثها وثقافتها بدءاً بالآبار الآبار التقليدية، والواحات، وأنظمة الري التقليدية (الأفلاج)، ومروراً بصيد اللؤلؤ، وصيد الأسماك، وطرق النقل والمياه، ووقوفاً عند رؤية المغفور له الشيخ زايد بن سلطان آل نهيان “طيب الله ثراه” لموضوع المياه وأهميتها واستخداماتها وغير ذلك مما يعكس اهتمامه الحضاري بالمياه.
قبل أن تنهي جولتك في المعرض تستوقفك معلومات عن الماء في القرآن الكريم والسنة النبوية المطهرة... تقرأ الآية الكريمة التي وردت في سورة الأنبياء “وجعلنا من الماء كل شيء حي”. تشعر كما لو أنك تقرؤها للمرة الأولى... تتسع دلالاتها، تفيض، تحيط بكل ما وقع عليه بصرك أو قرأته بعين بصيرتك.. تهتف من أعماقك: سبحان الله.
الماء في القرآن
الماء في المفهوم الإسلامي أصل الحياة على الأرض، وقد تكرر الحديث عنه في القرآن الكريم “63” مرة، هذا عدا خمس مرات وردت فيها لفظة ماء بمعنى النطفة.
والأصل في نظرة الإسلام إلى هذا السائل السحري أنه قوام الحياة، به بدأت وبه تستمر ولا شيء يحيا بدونه: (وَاللهُ خَلَقَ كُلَّ دَابَّةٍ مِنْ ماء) (النور: آية 45). وهو الدليل الهادي الى أصل الخلق ولهذا ينبغي على الناس أن يتفكروا في خلقهم وخلقه ليقع في قلوبهم اليقين بوجود الله وعظمته: (فَلْيَنْظُرْ الإنْسَانُ مِمَّ خُلِقَ * خُلِقَ مِنْ مَاءٍ دَافِقٍ) (الطارق: الآيتان 5، 6)، و(أَفَرَأَيْتُمُ الْمَاءَ الَّذِيْ تَشْرَبُوْنَ) (الواقعة: آية 68). وهو نوع من إعادة إحياء الأرض وبالتالي ضخ الروح في عروق الحياة المتصحرة في البلاد الميتة: (وَاللهُ الَّذِيْ أَرْسَلَ الرِّيَاحَ فَتُثِيْرُ سَحَابًا فَسُقْنَاهُ إِلى? بَلَدٍ مَيِّتٍ فَأحْيَيْنَا بِهِ الأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا) سورة فاطر آية 9، وفي الآية السابعة عشرة من سورة الرعد (أَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَسَالَتْ أَوْدِيَةٌ بِقَدْرِهَا)، وفي سورة النحل آية 65 (وَاللهُ أَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَحْيَا بِهِ الأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا) والشواهد كثيرة وما هذا إلا غيض من فيض...
وللماء في القرآن رمزية خاصة تتجاوز الشرب والسقيا الى الطهارة التي تحظى باهتمام بالغ من المسلمين في طقوسهم وعباداتهم: (وَأَنْزَلْنَا مِنَ السَّمَاءِ مَاءً طَهُوْرًا) (الفرقان: آية 48)، (وَيُنزِلُ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً لِيُطَهِّرَكُمْ بِه) (الأنفال: آية 11)، كما أنه علاج وشفاء: (وَاذْكُرْ عَبْدَنَا أَيُّوْبَ إِذْ نَادَى رَبَّهُ أَنِّيْ مَسَّنِيَ الشَّيْطَانُ بِنُصْبٍ وَعَذَابٍ * اُرْكُضْ بِرِجْلِكَ هَذَا مُغْتَسَلٌ بَارِدٌ وَشَرَابٌ) (ص: الآيتان 42، 43).
وثمة أحاديث كثيرة في السنة النبوية تؤيد هذا المعنى لا سيما ماء زمزم الذي وصفه النبي (صلى الله عليه وسلم) بأنه “خير ماء على وجه الأرض” وقال عن بئر زمزم بأنها “خير بئر في الناس”. وورد ذكر ماء زمزم في أمهات الكتب وعنها أخبار وتفاصيل كثيرة لا يتسع المجال لإيرادها كلها. والمسلم الحق يحرص على الماء حرصه على كل غال وثمين، ولا يفرط في استخدامه ولا يسرف في استعماله حتى لو كان على نهر جار. وهذه ليست الالتفاتة الوحيدة بالطبع لأهمية المحافظة على الماء في الإسلام بل جزء من رؤية شاملة ذات بعد حضاري وإنساني ترفدها وتقننها تشريعات عديدة وتوجيهات نبوية سبقت العالم المعاصر إلى إدراك ضرورة الحفاظ على الماء وترشيده، باعتباره ملكية عامة ينتفع منها كل الناس ولا يجوز للفرد أو لجماعة ما أن تستهلك منه أكثر مما تحتاجه في حياتها حتى لا تجور على حق الآخرين فيه... وهنا، ثمة تشريعات كثيرة يمكن العودة إليها في كتب القانونيين ودراساتهم حول التشريعات المائية في الإسلام التي تظهر في المجمل تلك النظرة الحضارية للإسلام في كل شيء.
الماء في اللغة
يقول الباحث علي خليل حمد “إن الأصل اللغوي لكلمة ماء هو ماه، ولذلك تجمع كلمة ماء على مياه أو أمواه، وتصغيرها مويه، ولعلّك تدرك من هنا أن الأصل في معنى “موّه” و”تمويه” بمعنى حاول تجميل الشيء يعود إلى إضافة الماء أو وجوده فيه ممّا يسبغ عليه الحسن والجمال”.
وللغة العربية علاقة خضلة وريّانة مع الماء، وقصتها مع هذه اللفظة ومدلولاتها عجيبة حقاً، فمن يتتبع هذه الدلالات يجدها تنفح على عوالم لا نهائية كما لو أنها قصر واسع تدخل إليه من باب ثم تجد نفسك في رواق يقودك الى رواق وردهة تأخذك الى أختها مسحوراً بما تقرأ ومأخوذاً بما تسمع. ولا عجب في ذلك فالمرء يصنع للأشياء العزيزة عليه أو النادرة صورة جميلة وينزلها منزلة كبيرة في أعماقه فما بالك بالماء الذي كان لدى العربي في صحرائه الممتدة معادلاً للحياة، وفي حال فقدانه يكون الموت محققاً. وما أكثر ما كان الماء يشح او ينضب فيرفع إليه العربي مدائح شعرية عالية وربما حلم به في نومه أو رآى السراب ماء.
وكغيره من الموضوعات وجد الماء طريقه الى المصنفات التي عالجته بالتفصيل ولعل أشهرها في هذا المجال كتاب “البئر” لابن الأعرابي. وقد أورد الدمشقي في معجمه “لطائف اللغة” 120 اسماً للماء منها على سبيل المثال لا الحصر: الأباب، القسم، البلال، الريق، التأمور، الحصير، الكوكب، الردعة، الرداع، العتيق، السعبر، الطرطبيس، الطغم، العبام، الزغرب، الغذارم، الغذامر، الغدق، الغمر، الغمير، الدهاق، الوشل، الطيسل، العلجوم، الأذيب، القمر، المجان، المهر، الهراهر، الهرهار، الهرهور، الجباجب، الجبجاب، الهلاهل، الطيس، الشول، السملة، الفراشة، الجزعة، البضض، الضكل، النشوح، الرشف، الماصع، الذفاف، الذق، الملك، النضيض، الهلال، الرفض، الثملة، الثمد، الوجه، المشاوش، الحثلة، الضحضاح، الضحضح، الثماد، البرد، البرود، البراد، المبرود، الصقر، البسر، القرورة، القررة، القرارة، الخريص، الشنان، النقاخ، السلاسل، السلسل، البيوت، السلسال، السخين، المبحزح، الحنيذ، الروق، الهلاهل، الداغصة، النقز، الحقلة، القريح، القراح، الطحل، الطثرة، الماصع، المسيط، المسيطة، الخلب، العذب، الرسيل، الرواء، الفرات، الفضيض، الخضرم، المسوس، الباضع، البضيع، النمر، النمير، الفظيع، النقاخ، الاجن، الأجون، الصقر، الصقعر، الطرحوم، الطلحوم، الطلخوم، الرمد، الطهل، الطاهل، الآسن، البغر، المسوس، الذميم، الملح، المليح، الماج، الزعاق، القعاع، الكثيف، الطثرة، الضنحم، الخمجر، الخماجر، الخمجرير، الخمطرير. وفي كتابه “فقه اللغة” وضع الثعالبي تصنيفات وتعريفات بخواص الماء وفعالياته وأشكال وجوده في الطبيعة. فهناك المياه التي تشرب والمياه التي لا تشرب، والماء في حالته النقية وفي الحالات التي يتغير فيها او تصيبه التحولات المختلفة، وفي حالات الجريان والثبات وفي شكله ومصدره وغير ذلك:
وتعكس فصول الكتاب المتعلقة بالماء غنى اللغة العربية ودقتها في التعاطي مع المعاني والدلالات حيث يعبر كل اسم عن مفهوم محدد، فهو أي الماء يسمى (عدّ) إذا كان دائماً لا يَنْقَطِعُ وَلا يَنْزَحُ في عَيْنٍ أو بِئرٍ، و(غدق) إذا كان كثيراً عذباً، و(غمر) إذا كان مغرقاً، و(غوْر) إذا كان تحت الأرض، و(غَيْلٌ) إذا كَانَ جَارِياً، وهو (سيح) إذا كَانَ عَلَى ظَهْرِ الأرضِ يَسْقِي بِغَيْرِ آلةٍ مِنْ آلات السقي، وهو (معين) و(سنم) إذا كَانَ ظاهراَ جارِياً على وَجْهِ الأرْضِ، و(غلل) للماء الجاري بين الشجر، و(ثَغْبٌ) إذا كان في حفرة او مستنقع، فإذا أَنْبِطَ من قَعْرِ البِئْرِ، فَهُوَ (نَبَط)، فإذا غَادَرَ السَّيلُ مِنْهُ قِطْعَةً، فَهُوَ (غَدِير)... ومن شاء الاستمتاع بهذه المعاني فعليه بكتاب الثعالبي.
ماء الشعر
ماء كثير سال في قصائد الشعراء وروى لغتهم لتصبح ريّانة نضرة. وكثيرة هي القصائد التي تحدثت عن الماء سواء بلفظه الحقيقي (الماء) أو في معناه المجازي وأنواعه وأشكاله المختلفة كالمطر والغيث والسحاب والغيم والثلج والبحر والنهر والغمام وغيرها مما يستحضر الماء عند ذكره. وكثيراً ما فتحت قرائح الشعراء لغة الماء على أقنية البوح ومحيطات السرد وبحار الدلالة، لتغرف منها علائق بلاغية تروي ظمأ الشاعر الى لغة تقوله وتصف ما تمور به روحه وتتدخلَِن في جوانيّاته ناهلة من مدخراته المعرفية. وإذا أردنا أن نسير وراء الدلالة وتأويلاتها، والكنايات وعلائقها، والصور البلاغية وانفتاحاتها النورسية على تخوم وفضاءات اللغة سنجد أن قصائد كثيرة شربت من (الماء) لغتها وسبحت في بحره وقطفت من تموجاته ما شاءت لها قدرات الشاعر الفنية واللغوية، وأن لفظة الماء تعدت معناها الى معان بلاغية شملت معظم مناحي الحياة وتجلياتها والشعر وأغراضه والتذوق الفني واقتراحاته الجمالية، وحققت انزياحات دلالية سارت في الناس مسرى المثل أو مضرب المأثور. ومن هذه العبارات الشهيرة اقتران الماء بالصبا والحياة والشباب فيقال “ماء الشباب” للتعبير عن الجمال والحسن والنضارة، ومنها “ماء الوجه” الذي يعني وجود الحياء من عدمه، ومنه قول الشاعر صالح بن عبد القدوس:
إذا قلَّ ماء الوجه قلَّ حياؤه
ولا خير في وجه إذا قلَّ ماؤه
كما ارتبطت صورة الماء في قصائد كثيرة بالفضائل ومكارم الأخلاق، ومن ذلك قول عروة بن الورد شاعر الصعاليك معبراً عن انشغاله بمصالح الناس وهمومهم:
أُقَسِّـمُ جسمي في جسوم كثيرة
وأحسو قراح الماء، والماء باردُ
وكثيراً ما جاء الماء محمولاً على الفخر واعتزاز العربي بقبيلته وشجاعته، كما في قول عمرو بن كلثوم:
ونشرب إن وردنا الماء صفواً
ويشرب غيرنا كدراً وطينا
وفي أحيان أخرى كان الماء محنة العارف وعذابه واستحالة تحقيق ما يرغبه الآخرون كما في قول الحسين بن منصور الحلاج الذي يرسم لنا صورة فنية مندّاة بماء الشعر ومحمولة على لفظة الماء:
ألقاه في اليمّ مكتوفاً وقال له
إياك إياك أن تبتل بالماء
ومنه قول الشاعر المرقش الكبير يصف عطشه الى محبوبته واستحالة الوصال بينه وبينها رغم قربها منه ووجودها على مرمى نظرة من عينيه:
كالعيس في البيداء يقتلها الظمأ
والماء فوق ظهورها محمول
وقد شاع البيت واتسعت دلالاته لتعبر عن كل حال يملك فيها المرء أو الأمة أو المجتمع شيئاً ويمنعه سبب ما من الاستفادة منها واستثمارها، وليس الماء ببعيد عن هذا المعنى؛ فالعرب على ما يبدو مهددون بأن يصبحوا مثل العيس في الصحراء إن لم يحسنوا إدارة معركتهم مع الماء.
وذات قصيدة جاءت حكمة الماء على لسان الضفدع التي ذهب قولها بين الناس مثلاً يؤشرون على عذابات تأكل روح كل إنسان لا يستطيع البوح بما في خاطره لأي سبب سواء كان سياسياً أو عرفاً اجتماعياً أو قمعاً يأتي من أي مصدر:
قالت الضفدع قولاً رددتـه الحكماء
في فمي ماء وهل ينطق من في فيه ماء؟
وما أكثر ما لبس الماء ثياب الحكمة وتفيأ ظلالها ونهل من معينها الوافر كما في قول الإمام علي بن أبي طالب كرم الله وجهه:
ترجو النجاة ولم تسلكْ مسالكها
إن السفينة لا تَجْري على اليَبَس
وهو بيت من أجمل بيوت الشعر العربي التي وجدت طريقها إلى مختارات شعرية كثيرة حرص أصحابها على انتقاء أجمل ما قيل في الحكمة، والبعض ينسب البيت إلى أبي العتاهية الذي زهد في الدنيا وكتب شعراً رائعاً يمتح مفرداته ومعانيه من الإيمان كما في هذا البيت الذي لا يؤصل فقط لسبل النجاة في الآخرة والفوز بالجنة بل يلمح أيضاً إلى معنى الاستعداد واتخاذ الأسباب الكفيلة بالنجاح وتحقيق الأهداف. فالمرء يحقق ما يريد بالجد والعمل وليس بالأمل والتمني فقط. ومن أراد شيئاً عليه أن يسلك الطريق الموصلة إليه.
لكن الماء في أوقات أخرى وعند شعراء آخرين كان نموذجاً للتهكم والسخرية من سفسطة البعض وتلاعبهم بالألفاظ من دون فائدة، كما قال شاعر مجهول:
كأننا والماء من حولنا
قوم جلوس حولهم ماء
وهذا يستدعي بيت ابن الرومي الشهير في التهكم والسخرية ممن لا يأتي بجديد:
أقام يجهد أياماً قريحته
وفسَّر الماء بعد الجهد بالماء!
وهذا مما جرى على ألسنة الناس حتى عد من الأمثال السائرة بعد ان اختصرته العامة إلى هذه الصيغة “فسر الماء بالماء”.
وللماء تجليات شعرية جمالية تصف حضوره الجمالي في الطبيعة أو إيقاع رؤيته على النفس والاستمتاع بما يحمله من رسائل رمزية وفكرية تدعو إلى التفاؤل وحب الجمال كما في قصيدة الشاعر إيليا أبو ماضي:
كم تشتكي وتقول إنك معدم
والأرض ملكك والسما والأنجم
والماء حولك فضة رقراقة
والشمس فوقك عسجد يتضرم
ولعل الغزل هو المجال الحيوي للماء، فبه يقترن صوت المحبوبة وحديثها (العذب) الذي (يترقرق) مثل (ماء سلسبيل) و(يسيل) مثل (نهر)، والعبارات التي تشبه هذه أكثر من أن تحصى في لغتنا الجميلة ومائياتها. وهو ذا أبو ذؤيب الهزلي يشبه حديث محبوبته بعسل النحل الممزوج بألبان أبكار الإبل الحديثة النتاج والمشوب بماء صاف مثل ماء المفاصل الصافي النقي الذي لا تشوبه شائبة:
وإن حديثًا منك لو تعلمينه
جنى النحل في ألبان عوذ مطافل
مطافيل أبكار حديث نتاجها
تشاب بماء مثل ماء المفاصل
فيما يشير شاعر آخر الى جمال الصوت الأنثوي بوصف أثره في النفس كأثر الماء البارد عند امرئ برح به الظمأ:
فهن ينبذن من قول يصبن به
مواقع الماء من ذي الغلة الصاوي
البشرية ينتظرها العطش
تأخذنا هذه الصورة المجازية التي رسمها الشاعر للعطش إلى صورة واقعية حقيقية ترسمها الأرقام الخاصة بالمياه، لترسم معها حدود إنسانيتنا وربما آدميتنا المهددة بالجفاف. وإذا ما صحت توقعات الخبراء والمختصين حول المياه فإن هناك بلداناً وشعوباً يمكن أن تموت عطشاً سواء بسبب الجفاف او ندرة الموارد المائية أو بسبب الصراع على الماء الذي يتوقع أن يكون سبب الحروب في المستقبل.
والصورة بالنسبة إلينا نحن العرب لا تبدو مريحة بالمرة حين يتفحص المرء واقع المياه في العالم ويقرأ ما تبوح به الأرقام أو تخفيه. فالبنك الدولي على سبيل المثال لا الحصر ذكر في تقرير أصدره مؤخراً أن نصيب الفرد من المياه في الشرق الأوسط وشمال إفريقيا سوف يتراجع بنسبة خمسين في المائة بحلول عام 2050، مقابل 4000 متر مكعب في عام 1950 و 1100 متر مكعب في العام 2009. والنسبة ماضية في الانخفاض نتيجة لتزايد السكان المستمر. ومن المتوقع ـ حسب التقرير ـ أن يتراجع نصيب الفرد بمعدل النصف ليصل 550 متراً مكعباً للفرد بحلول عام 2050. فيما يعتبر نصيب الفرد من المياه عالمياً حوالي 8900 متر مكعب في العام، وسوف يتراجع ليصبح 6000 متر مكعب للفرد في عام 2050. والتقرير يرى أنه يجب أن تتحسن إدارة المياه في منطقة الشرق الأوسط وشمال إفريقيا إذا كان لها أن ترتقي لمواجهة مثل هذه التحديات الخطيرة خصوصاً وأنها تعاني من ندرة المياه أكثر من أي موضع آخر في العالم. ويعتبر أن التطورات التي طرأت، مثل تزايد التلوث وظهور تقنيات جديدة للبحث في الأرض عن مياه جوفية صالحة للشرب ولأغراض الزراعة “تتجاوز قدرة المشرعين والمنظمين على إدارة الموارد المائية بشكل فعال”.
الكتابة عن الماء وأزمته خاصة في العالم العربي توجع القلب. إنها جبهة ساخنة لا يبدو أن العرب منتبهون لها فيما ينشط الكيان الصهيوني على اكثر من صعيد لإدارتها بحسب مصالحه. ووفقاً للبنك الدولي، يستهلك الإسرائيليون نسبة مياه تفوق تلك التي يستعملها الفلسطينيون بأربعة أضعاف وكم طالبت منظمات دولية بالاهتمام بحقوق الفلسطينيين من الماء لكن جهودها ذهبت أدراج الرياح فيما بدا أن الفلسطينيين في واقعهم المائي الحالي والمستقبلي كالقابض على الماء أي الوهم. ولأن العالم العربي يقع في الحزام الجاف وشبه الجاف من العالم فإن مشكلة المياه تبدو أكثر تعقيداً، فالموارد المائية المتجددة فيه تقل عن 1% من المياه المتجددة في العالم، ونصيب الفرد العربي من المياه 1744 مترا مكعبا سنويا، في حين أن المعدل العالمي يصل إلى 12900 متر مكعب سنويا، ومعدل هطول الأمطار بالوطن العربي لا يتجاوز 450 ملم سنويا، في حين يتراوح في أوروبا مثلا بين 200 ـ 3000 ملم سنويا. وتمثل الصحارى 43% من إجمالي مساحة الوطن العربي، وحجم الموارد المائية المتاحة تبلغ 338 مليار متر مكعب سنويا لا يستثمر منها إلا 173 مليار متر مكعب!. في حين أن الوطن العربي يحتاج لتلبية احتياجاته من المياه -إذا أحسن استخدامها وتم عمل خطط لسد الفجوة الغذائية- إلى نحو 500 مليار متر مكعب من المياه سنويا. والموارد ومصادر المياه في الوطن العربي تتمثل في الأمطار والمياه السطحية “الأنهار”، وهذه تحديداً هي كعب إخيل او الحلقة الأضعف في موضوع المياه، فالمياه السطحية المتاحة حاليا للوطن العربي تبلغ 127.5 مليار متر مكعب سنويا، تحوز ثلاثة أقطار عربية نحو 71% منها، هي مصر والعراق والسودان. وإذا أدركنا أن 67% من مياه الأنهار في البلدان العربية تأتي من خارجها، عرفنا حجم ما يمكن أن يحدث من مشكلات إذا قام العرب بعمل تنمية أو سدود تؤدي لزيادة مواردهم. وإذا تذكرنا أطماع الكيان الصهيوني في المياه التي يعتبرها الإسرائيليون معركة وجودية كما عبرت أدبياتهم أكثر من مرة، يتضح كم أن العرب مؤهلون ليكونوا في المستقبل أول العطشى في هذا العالم.
وعلى المستوى العالمي، وفي ظل ظروف مائية ضاغطة يصبح الهدر المائي هدراً للحياة، والعجز عن رسم استراتيجية تتيح لجميع سكان هذه المعمورة أن يشربوا عجز عن ممارسة أبسط شروط الإنسان لإنسانيته... فهل تدرك البشرية قيمة الماء وأهميته وضرورة المحافظة عليه وترشيد استهلاكه وزيادة مصادره، أم أنها لن تعي الدرس ولن “تدرك قيمة الماء حتى يجف البئر” على حد تعبير توماس فولر؟!
الأفلاج نظام مائي من العصر البرونزي
تبدو مدينة العين في دولة الإمارات العربية المتحدة أكثر مدنها ارتباطاً بالماء، ليس لأنها تحمل لفظاً يؤدي مباشرة الى الماء “العين اسم أهم مصادر المياه” وإنما لأنها كانت عبر التاريخ مكاناً لنوع من أنظمة الري التقليدية الخلاقة تسمى “الأفلاج” والذي يقوم على جلب المياه من الآبار لري وسقاية المزارع وأشجار النخيل.
وقد حرص المغفور له بإذن الله تعالى الشيخ زايد بن سلطان آل نهيان خلال حكمه على رعاية الأفلاج وتطويرها والحفاظ عليها، حيث كان “رحمه الله” يرى أن “بيئتنا ومواردنا ليست ملكنا بل هي أمانة عهد بها إلينا، وعلينا جميعاً مسؤولية تأمين الرعاية لها والعناية بها، وتسليمها سالمة من الأضرار للأجيال القادمة”.
ويعتبر نظام “الأفلاج” أحد أنظمة الري التقليدية التي يعود تاريخها إلى آلاف السنين، وهي نظام معقد للري يرقى إلى العصر البروزنزي، ويشهد على انتقال المنطقة من ثقافة الصيد والقطاف إلى الحالة الحضرية كما جاء في توصيف لجنة التراث العالمي باليونسكو التي وضعت العين مؤخراً على قائمة التراث العالمي وكان من أسباب ذلك تميز نظام الري فيها “الأفلاج” علاوة على مواقعها الثقافية والحضارية وعمقها التاريخي.