في مسيرة البحث في مجالات الرواية والقصّة سواء على المستوى المحلي أوالمستوى العربي، يقودنا الاجتهاد أحيانا الى كثير من التجارب المجهولة، وهي مجهولة لأنها تكون عادة ذات ظروف خاصة أبعدتها عن دائرة الضوء، وعن مجالات النقد التطبيقي الموضوعي. والغريب أن مثل هذه التجارب الأدبية تضع باكتشافها البدايات لعديد من القضايا الاجتماعية والإنسانية والسياسية الهامّة، كما أنها تضعنا أمام أقلام وأسماء تملك من الخيال والثقافة الواسعة والجرأة في التناول، والموهبة والأدوات التعبيرية ما يجعلنا نسعد بما اكتشفناه. ومن ذلك قلم أنثوي شاب، تكتب بمداده قاصّة سعودية من جيل الحداثة هي ابتسام عبد الله البقمي في مجموعتها “اضطراب”، التي تمثل تجربتها الأولى في هذا المجال، وتحمل في ثناياها عشرين قصة قصيرة تتمتع بمؤثرات محلّية، ولغة جميلة بسيطة تتجنب الغرائبية وبهلوانية التعبير والتصوير، ومفردات مركّبة، وأجواء إنسانية مفعمة بالحياة والمرارة والأحلام، يغلفها جميعا ثوب من الظلال العذبة والثّرية في عفويتها وصخبها ودفئها. وتتضمن المجموعة عدة قصص هي بالترتيب: أماني الراحلة، عذاب والبحر، الزّهور النّدية، مشاعل، مذكرات مدمن، أديب، سعادة الأديب المنسوخ، يوم صالح، اضطراب، داخل أروقة الجامعة، الضّحية، الى أبي وأمي مع التّحية، أكل مال اليتيم، النّصيحة، عجلان، قدري الجميل، له هوس، جاحد، ابني جاحد. أول ما يلفت الانتباه في هذه المجموعة في طبعتها الثانية الصادرة عن دار المؤلف للنشر في مدينة القصيم في 108 صفحات من القطع الصغير، هو عنوانها “اضطراب” الذي تتجمع فيه جميع الخطوط المتشابكة في مجموعة القصص التي تتجلى فيها وحدة الموضوع والفكرة، وتركيز القاصّة على فكرة “عزلة” الإنسان المعاصر في مجتمعه، وهي فكرة عالمية طالما انشغل بها كتّاب المسرحين الطليعي والعبث في الخمسينات. إن عنوان المجموعة هو بمثابة “الحبل السّري” بين النّص والقارئ، حيث تلفحنا طوال متابعة مضامين القصص نسمات من اليأس والأمل والاضطراب والقلق وتحطيم الصّمت وكشف المستور. في قصة “الضّحية” تناولت البقمي واحدة من أخطر قضايا العصر، ممثلة في اصطلاح جديد اسمه “الإرهاب”، وما يرشح عنه من أفكار ومعتقدات التّزمت الدّيني والتّعصب وتكفير الآخر ولصق التهم جزافا. وبطل القصة هو الشاب “ضاحي” الذي تأثر بأفكار الشيخ عاطف الذي كان يزرع فيه على الدوام فكرة “التكفير”، حتى وصل الأمر به للاشتراك مع مجموعة إرهابية وتفجير نفسه في بناية مأهولة بالسّكان، وقبل ذلك، كان يضيّق الخناق على نساء العائلة، وعيشه في هوس دائرة الحرام والتحريم والعيب والتشاؤم، بعد أن كان فتى محبوبا من الجميع: “نشأ الفتى ضاحي في أسرة مسلمة عربية محافظة، وكان في طفولته نابها خفيف الظّل، كثير الحركة، يضفي جوّا من المرح والمتعة على البيت، حتى اذا بلغ السّن التي يسمونها سنّ المراهقة بدأ يلتزم بالمبادئ الإسلامية الى درجة الغلو. ولأن ضاحي لم يجد من يتيح له فرصة الحوار فقد وجد ذلك لدى مجموعة من الشّباب عرّفوه على الشيخ عاطف، الذي وجد في هؤلاء الشباب التّائهين أرضا خصبة يزرع فيها ما يشاء من أفكأر مشوّهة” (القصة ص 77). في هذه القصة حاولت البقمي فكّ رموز شفرات عالم الارهاب في عالمنا العربي (ممثلا في الأسر والمجتمع) الذي لم يستوعب بعد هذا الاصطلاح الدّخيل، ومن ثم تفكيكه في تعبيرات هادئة، وقصّ جميل، يجعل من هذا الاصطلاح فكرة يمكن مناقشتها وتداولها بعيدا عن فساد السياسة والسياسيين، ومن ثم الدّفع بالقارئ ليكون جزءا وطرفا في الموضوع: “قالت زكية أخته الكبرى، يا والدي، يا أمّي، الخطأ خطّأنا، لم نتح له فرصة الحوار، وعرض ما لديه من أفكار ومناقشته فيها، حتى يظهر وجه الحقيقة، لم نعطه الثّقة في نفسه حتى اصبح صيدا سهلا لهؤلاء الضّالين المضلّين”. النّطاق العربي وهمومه كان الإطار العام لفكرة قصة “الزّهور النّدية” التي تتناول فيها القاصة الحالة العربية من تراجع وضعف ازاء الواقع والتحديات والقضايا المصيرية. أما بطل القصة فهو التلميذ “حسام” الذي تضفي عليه القاصّة هالة من تقمّص دور الرجولة ونفحات من الثورية ضد الظلم والطغيان والاحتلال: “قال حسام صارخا في وجه أهله: لا أريد أن أكون رجلا كرجال اليوم، ما قيمة الحياة، ما قيمة الرجال، اذا كانت بلادنا العربية في انحاء عديدة تدمّر وتدهس كل يوم بالأرجل الخبيثة، ويقتل الرجال شيبا وولدانا، يقتل الأطفال والنّساء، ويروعون بالقنابل والصواريخ، يتضورون جوعا، يموتون تحت ركام المباني والأنقاض رجال أمّتنا رضوا بالمهانة، ونسوا أمر الكرامة” (ص 27). القصة تمت صياغتها في ديالوج طويل بين بطلها الطفل حسام ووالدته، مكتوب في لغة حوارية أقرب الى صياغة النّص المسرحي، ومن العنوان نستطيع اكتشاف تجليات العتمة التي غلفت أجواء الحوار المفضي في النهاية الى الزهور النّدية المتفتحة في أمل النصر القريب الذي جاء على لسان الأم. وما يميز صياغة البناء الحواري هو تركيب الصور النابعة من أجواء الحوار، بحيث تلعب اللغة دورا كمعادل موضوعي في تجهيز الموقف الفني. في قصتها “اضطراب”، ثمة موضوع أثير، قديم متجدد، نجده حاضرا على الدوام في مجال الأدب والتعبير، وهو موضوع الشّك في العلاقات الزوجية من خلال المثلث الأزلي (الزوج والزوجة والعشيق)، وقد سردت القاصة الأحداث على لسان بطلها الزوج “عثمان”، الذي فرّت منه زوجته “هيا” برفقة أولادهما الثلاثة. وأقامت القاصة كامل موضوعها على مونولوج طويل ضمن تكنيك الحدث الاسترجاعي “الفلاش باك”، حيث يقضي عثمان ليلة كاملة في احد الأركان المعتمة في منزله، في محاولة منه للوصول الى سبب مقنع لهروب زوجته التي كان يربطه بها قصة حب جميلة، مستعرضا شريطا طويلا من الذكريات الحلوة المرّة: “ذات مرة عاد من العمل مبكرا فسمع زوجته تتحدث في الهاتف، اقترب منها دون شعور منها، أرخى أذنيه يستمع، فإذا هي تحدث رجلا وتضحك، حاول مرة أخرى، أدخل أصبعه في أذنه، نظّفها مما قد يعوق سمعها، رفع أصبعه، وجدها تكرر الضّحك وتوجّه خطابا لمذكّر، يا الهي احمرت عيناه، انتفخت أوداجه، ارتعد جسده، خطف سمّاعة الهاتف منها، استمع.. لم يسمع شيئا، تحدّث يا كلب يا جبان... على رسلك يا عثمان، ما هذا كلّه، كل هذه الصفات لخال أبنائك، سامحك الله يا أخي” (ص 63). تقدم القاصة بلغة مفعمة بالبساطة والرّقة بوح ذكوري في حضرة أنثى غائبة في الجسد حاضرة في الروح والمعنى والدلالة، مع ذلك التّماهي البديع مع لحظة التّذكر مما يفضي في النهاية الى دعوة للمحافظة على مؤسسة الزواج بوصفها الإطار الإنساني الحقيقي لتلاقي الرجل بالمرأة على تحقيق فكرة الحياة نفسها، وإفساح المجال أمام العقل كي يتغلب على العاطفة وسرعة اتخاذ القرار، أما البوح في حضرة الأنثى فكان له طعم خاص، من خلال سرد تفاصيل عديدة في صور فنية أقرب الى صورة السينما، يكتشفها القارئ على نار هادئة من خلال تلك التقطيعات الجميلة التي يتذكرها عثمان عن حياته مع زوجته وأطفاله، ومدى السعادة التي كان يعيشها بمقابل العزلة والعتمة وبلاغة تصوير الألم، التي بدلت حياته الى جحيم، حتى ينتهي بقرار جريء: “وقرر أن يعيد هيا من بيت أهلها، هي وفلذات كبده، الذين باعدت بينه وبينهم ظلمات الشّك وطرق الشيطان”. طرقت القاصة في مجموعتها العديد من القضايا مثل: الإدمان (مذكرات مدمن)، ومعاناة المثقفين والأدباء عربيا (أديب، سعادة الأديب المنسوخ)، وفي الأولى دعوة لتكريم المبدعين قبل رحيلهم، وفي الثانية تطرح قضية سيطرة الحياة المادية على الثقافة الأصيلة والقيم الإنسانية، وجانبا من أحلام المبدعين في إرساء العدالة الاجتماعية واحترام الكلمة وتحقيق حرية التعبير بعيدا عن مقص الرقيب بكل ألوانه وأشكاله، ومن ذلك قصتها “مشاعل” التي تتحدث فيها عن أحلام الصحفية مشاعل التي تكشف معاناتها مع الصحافة، وما يتداخل فيها أحيانا من بروز القلم الرديء على حساب القلم النظيف، أما درجة الإيقاع المرتفعة في هذه القصة فتبدو في استدعاء بطلتها للعديد من الشخصيات التاريخية مثل صلاح الدين الأيوبي، والمعتصم بالله، كما تستدعي العديد من الأحداث التاريخية والمعارك التي تصور العصر الذهبي لرفعة العرب والمسلمين. ان الفضاء القديم الذي استخدمته القاصة في بناء أحداث معاصرة تقوم على مستويين من التشخيص، النفسي واللغوي، مع وجود تعدد صوتي مرتبط بالوعي الحاضر مما أشاع في أجواء القصة مناخات المقاربة، وتحقيق فكرة البناء الموضوعي واختراق عوالم الذّات. تملك البقمي قدرات تخييلية مع تحقيق سلطة فاعلة في مجالي الحكي والسرد، وهما مشفوعتان بإيحاءات من الصور الدلالية ووفرة المضامين من خلال منجز ابداعي جدير بإيلائه قدرا من المتابعة والاهتمام والنقد، ففي كتابتها حرية وانطلاق لا تتقيد بمنطق هندسي جامد، وفي تعبيرها دفء أنثوي ينطوي على رومانسية مهذبة عذبة، وتعبير خال من الغموض والتعقيدات اللغوية، وأناقة في اختيار المفردات ذات الدلالات والرمزية والتركيب من السهل الممتنع، ومن ذلك قصتها “يوم صالح” التي تحكي عن انسان بسيط (ابو بدر) مات في زحمة الحياة وانشغال الناس بلهوها ومتعها. وفي مجمل القصة يبدو من حدثها القصير المكثف مناقشة لفكرة الموت: “مات بين زوجتيه اللتين أقام ميزان العدل بينهما حتى لحظة الوفاة، قام الأهل والجيران والأقرباء بواجبهم تجاه صاحب الواجب، غسل وكفّن وطيب وصلي عليه في المسجد الحرام، وراحوا يشيعون جنازته الى أن تمّ الدّفن.. نعم الدّفن، ما أضعفك أيها الإنسان جئت من تراب وعدت الى تراب” (ص 58). إلى جانب استخدام المفردات القادرة على بناء الصور الفنية تملك الكاتبة تأثيرا واضحا في انتقائها وتركيبها، بحيث تصبح الكلمات القليلة نوافذ مشرعة يطل منها القارئ على بواطن الشخصية، كما جاء في افتتاحية القصة: “بكى الزمان، وبكى المكان، وبكى الأهل والأقرباء، لم تذع نبأ وفاته وكالات الأنباء العالمية ولا المحلية، فلم يكن شخصية رسمية، ولم يكن من أصحاب الجاه والمنصب، ولا مغن ذائع الصيت، لم يكن ممثلا، لم يكن كاتبا مسرحيا أو سينمائيا، ليس شاعرا يتغنى بقصائده الغزلية المثيرة، لكنه كان من الأخيار الذين ساهموا في إصلاح الإنسان”. إن البقمي تثير بكتابتها هذا اللون من القصص المختلفة الطول والقصر، متناقضات الزمن الموحش، كما تكشف عن قيمة وأهمية الدفء العائلي وتقشير المكتوب على صفحات المجتمع، بحثا عمّا يضيء العتمة من توتر الذّات، فهي تناور مجتمعها في غير تصادم، فيما هي ماضية في مواجهة الجحود والنّكران والتّخلي عن القيم الأصيلة بالورود من الكلمات، وبإضاءة الشموع في نهاية النفق، فصاغت لنا قصتين في هذا المنحى وهما “جحود” و”ابني جاحد”. في الأولى تصوّر القاصة جحود الأخ “جاحد” لفضائل أخيه “عبد المعطي”، وهو كالبحر في جوده وكرمه، ولأن أخاه كان فقيرا فقد عيّنه في منصب قيادي في شركته الخاصة، أما جاحد فقد خان شقيقه الكريم بإفشاء سر مناقصة عرضتها الشركة لعملائها. القصة التي لا تزيد عن عشرين سطرا جاءت مكثفة، ومقتصدة في صورها وتعبيرها بما يذكر بتركيبة القصة التلغرافية التي شاعت في أوروبا في السنوات العشر الأخيرة. أما القصة الثانية وهي على ذات التنويع والإيقاع، فتحكي عن آلام أم أفنت حياتها وشبابها في تربية ابنها أحمد بعد أن توفي والده وتركه صغيرا، وما كان منه في نهاية الحدث إلا أن أودع أمه في دار للمسنين بناء على إلحاح من زوجته سعاد. ونستطيع القول إن البقمي في هذه القصة ذات الطابع الإنساني قد نجحت في طريقة سرد موضوعها دون أن تغرق في تفاصيل الحكي والقول، مع الحرص على ابراز العنصر الذاتي في اللغة والبناء، أما الشخصية السردية فتظهر بصورة رمزية كمعادل موضوعي لجحود المجتمع بوجه عام ازاء موروثه وأصالته، وتراثه المجيد. في الواقع ان التجربة الأولى لأي كاتب غالبا ما تكون موضع استفهام، وهذا يعني أن تجربة السعودية ابتسام البقمي على تأثيرها وأهميتها وانطلاقها من مجتمع ما زال يتشبث بالكثير من العادات والتقاليد، تحتاج الى المراجعة في بعض الجوانب، وبخاصة الإطار التقليدي من التعبير في قالب المباشرة والخطابية في قليل من القصص، ناهيك عن أنها وضعت نفسها في بعض القصص مكان الشخصيات وبالتالي حكمت على نفسها بأن تظل بوحا شخصيا) سرعان ما كان يتلاشى مع تطور الأحداث وبخاصة اذا كانت القضية تصور الصراع الوهمي المصطنع بين الرجل والمرأة. لكننا بالمجمل العام نستطيع القول إنها نجحت في غير قصة من مجموعتها في تأكيد ذاتها وتحديد هويتها، وتقديم شكل جديد من الكتابة النسوية يعتمد على (ثيمات) تخترق في كثير من الأحيان حواجز المجتمع وقيوده، كما لمحنا ذلك في قصص: عذاب والبحر، داخل أروقة الجامعة، أكل مال اليتيم وغيرها. إنها تكتب بمداد وردي، تفوح منه شاعرية خلاّبة، مع تناص مع المحيط المتعدد المرجعيات في عالم المجتمع وعالم المرأة.