يثير موضوع القصة القصيرة في الإمارات الكثير من الأسئلة الإشكالية، بعضها يتعلق بالكم وبعضها الآخر بالكيف، وثالث بالإسهام الملحوظ للمرأة الكاتبة. أما من حيث الكم فثمة من يرى أن القصة القصيرة هي الأكثر بروزاً في المشهد الثقافي المحلي.. وأما من حيث الكيف فثمة جدل غير محسوم بين متحمس يرى أن المنتج الإبداعي في مجال القصة جيد ومعتبر وبين متحفظ يعتقد أن وراء هذا الكم من الإصدارات القصصية نوع من الاستسهال الذي يعزى إلى تصور بعض الكتاب بأن كتابة القصة القصيرة أكثر سهولة من صنوف الإبداع الأدبي الأخرى... ماذا يقول النقاد عن تسيّد القصة القصيرة للمشهد الثقافي المحلي وعن كونها تشهد نمواً مضطرداً في السنوات الأخيرة؟ وماذا عن بروز المرأة القوي في هذا الفن المهم؟ وكيف ينظر القاصون إلى القصة كخيار فني ووسيلة للقول والتعبير؟ يحتج عدد من الذين يرون أن انتشار القصة القصيرة في السنوات الأخيرة وبروز كمّ من الأسماء الشابة ليس دليل عافية فنية بل وراءه نوع من الاستسهال، بالقول إن جزءاً غير قليل من الإصدارات القصصية لا تحمل بين أعطافها قصصاً بالمعنى الفني للقصة القصيرة وشروط كتابتها وأن كثير منها يقع في منطقة الحكايات أو الخواطر. بينما يرد القاصون المشاركون في هذا التحقيق بالقول إن هذا الإقبال على كتابة القصة القصيرة نابع من كونها قريبة من أرواحهم وقادرة على التعبير عما يجول في صدورهم و يعتمل في قلوبهم وعقولهم. وهم يؤكدون أن كتابتها ليست سهلة بل تحتاج إلى إمكانيات فنية، لكن الأمر يتعلق بطبيعتها حيث أنها لا تحتاج وقتاً وجهداً ومثابرة كما في كتابة الرواية، وهي أيضاً لا تقيد الكاتب في شروط الشعر الصعبة من وزن وقافية، ويمكن كتابتها بكثافة وتركيز في وقت قليل.. وهي تتلاءم مع العصر وإيقاعه السريع. المشهد المتجدد يرى الناقد والروائي الدكتور عبد الفتاح صبري أن المشهد السردي في الإمارات “سيظلّ مؤكداً أن القصة تستحوذ على الاهتمام من المبدع الإماراتي وأنها بالتالي تشكّل معظم هذا المشهد منذ انطلاقها المتزامنة تقريباً مع تأسيس الدولة؛ حيث شهدت فترة ما قبل السبعينات مباشرة إرهاصات أدبية كبيرة وثقافية ساهمت فيها الأندية الرياضية آنذاك، واللافت أن القصة الإماراتية ولدت مكتملة بل وتسبق أحياناً القص العربي، ولقد ساهم جيل الرواد في هذا التأسيس الفني الذي حرق كثيراً من المراحل.. هؤلاء معظمهم فتح الباب للإبداع القصصي ثم تواروا خلف أقنعة الوظيفة أو البحث عن المكانة الإدارية والاجتماعية في المؤسسات التي بدأت تتشكل ومن هؤلاء: عبد الله صقر وشيخة التاخي وعبد الحميد أحمد ومريم جمعة فرج وسلمى مطر وظبية خميس وعبد الرضا السجراني وهناك من كتب نصاً أو نصين وهم كثر”. ويشير د. صبري إلى أن “هذه القصة المؤسسة والمكتملة فنياً تمكنت كذلك من رفض قيم التبدلات والقيم الوافدة رفق التغيرات الاقتصادية وبناء البنى التحتية الضخمة التي استلزمت وجود الآخر بكثافة مما أضر بالتركيبة السكانية، وكذلك بدأت تأثيراتها السلبية في الهوية الإسلامية والعربية، كما تمكنت من البكاء على ما قبل التبدلات متكئة فنياً على البحر والنخلة والصحراء كمستمسكات في مواجهة الحداثة التي رأت فيها القصة خطراً على الأرض والهوية”. ويلفت د. صبري إلى أن “المرأة القاصة كان لها سبق الكتابة أو البداية المبكرة مع الرجل؛ فشيخة الناخي يشير إليها البعض بهذا السبق، وفنياً سنرى أن قصص مريم جمعة فرج وسلمى مطر سيف وظبية خميس اكتنزت بالفن وبالتمكن والاكتمال، ثم شهدت فترة أخرى لاحقة من نكوص القصة وعودتها إلى الارتباكات التي نشاهدها مع البدايات وكان هذا بحق لافتاً يحتاج إلى رؤية وتأمل لماذا هذا النكوص الفني وكأن هذه السنوات لم تكن كافية للقفز نحو الاكتمال. واللافت الثاني والأهم أن المرأة القاصة هي الآن مستحوذة على المشهد الكمي والنوعي، فكل الكتابات القصصية معظمها الآن للمرأة، وهذا يحتاج إلى نظرة سوسيولوجية في هذه الظاهرة لماذا المرأة فقط هي التي تكتب القصة الآن تقريباً؟ لكن في بداية الألفية تقريباً ظهر جيل جديد من الكاتبات منهن من تمكن من إعادة الفن القصصي إلى وعيه الفني، ولكنهن جيل انفتح على إشكاليات الذات والعلاقة مع الآخر، والبحث في الموضوعة الإنسانية بشكل عام. كما تمكن من قلب معادلة التعامل مع الرجل وأصبح الرجل في تلك القصص مفعولاً به بعد أن كان فاعلاً في نصوص الرجل الكاتب، وكأن هذا رداً على ذلك، وبالتالي أصبحت المرأة الكاتبة تعيد ترتيب علاقات القهر والاستلاب التي كانت سائدة في الماضي وبدأت تتبدل نسبياً في بعض هذه الكتابات النسائية الجديدة ومنهن: فاطمة الكعبي وعائشة عبد الله وفاطمة المزروعي وأخريات”. قاصون لا آباء لهم وينقل الشاعر والقاص والفنان التشكيلي محمد المزروعي الجدل المتعلق بالقصة القصيرة إلى مستوى آخر، مطالباً بأن ينظر إلى هذا الموضوع من زاوية الظروف والمعطيات التاريخية التي ساهمت في نشأته، موضحاً أن الحديث ينبغي أن يتجاوز الكم ليدخل في النوع وإشكالات الكتابة ذاتها. بداية، يؤكد المزروعي أن هناك ثلاث تجارب (لا يمكن القول إنها مكتملة) لكنها شهدت نمواً وتطوراً وحراكاً مستمراً وهي: القصة القصيرة والفن التشكيلي والشعر. مشيراً إلى أن الفن التشكيلي يكاد يكون من أهم التجارب الفنية على مستوى الخليج. وإذا أردنا المقارنة بين المشهد التشكيلي في الإمارات سنجد أنه متميز ليس فقط لجهة الكم بل من حيث، وهذا ما يميزه. ربما يكون عدد الفنانين في المملكة العربية السعودية، على سبيل المثال، أكثر بكثير مما عليه الحال في الإمارات، لكن على المستوى الفني لا يقدم غالبية الفنانون غير تجارب متواضعة، بسيطة، لا يوجد فيها تنوع في الفكر البصري، في حين تتميز التجربة التشكيلية في الإمارات بتنوع (رهيب جداً) للفكر البصري فيها، وهذا كان موجوداً بالمناسبة قبل بينالي الشارقة للفنون التشكيلية. ويضيف المزروعي: “القصة القصيرة أيضاً تعتبر من التجارب التي تشكلت ملامحها. فمن حيث العدد هناك شيء يمكن الإمساك به للقول بأن هناك قصة قصيرة جيدة في الإمارات، وهي تشهد نمواً فعلياً. أما الرواية، ففي رأيي أنه لا توجد رواية في الإمارات مع الاحترام والتقدير لتجربة علي أبو الريش، ومع الإيضاح الضروري بأن هذا القول لا ينفي وجوده الروائي ولا اشتغاله على الرواية. أقول هذا على الرغم من أن لدينا في الإمارات (70) رواية. وهذا رقم دقيق، حيث قمت بحصر ورصد الروايات الصادرة في الدولة بغية تنشيط هذا الجنس الأدبي محلياً ورفع وتيرة الاهتمام به. وبالمناسبة أشير إلى أن شعار الموسم الثقافي الحالي لاتحاد كتاب وأدباء الإمارات هن: “عام الرواية الإماراتية”. بالطبع، ثمة إشكالات تظهر على صعيد تصنيف الروايات الصادرة، فقد تبين مثلاً أن نسبة الكاتبات تتراوح بين 66 إلى 65 في المائة، كما أن هناك كتاباً كتبوا رواية واحدة ولم يكملوا... وهناك شعراء كتبوا رواية واحدة (ثاني السويدي، أحمد راشد ثاني، مانع سعيد العتيبة، شاهندة). ولا يمكننا اعتبار الكاتب روائياً لأنه كتب رواية واحدة، خاصة وأن الرواية المكتوبة لم تقدم تجربة فارقة في حدّ ذاتها. صحيح أن تاريخ الأدب عرف روايات مفصلية ومهمة، وربما صنعت تياراً في أوروبا أو أميركا اللاتينية لكن هذا لم يحدث في الإمارات. ربما تكون رواية الديزل مميزة، ولغتها جميلة، وفكرتها جديدة حيث تدور داخل فيلا لكنها لا تدخل في سياق الروايات التي تصنع حضور كاتبها برواية واحدة فقط. وهي في الأخير قصة طويلة مكتوبة بلغة شعرية جميلة. أوردت هذا الحديث عن الرواية لأدخل إلى القصة التي شهدت ملامح متشابهة، فهي من حيث الكم تشهد حضور الصوت النسائي بنسبة أعلى من الصوت الرجالي. لكن هذا وحده لا يكفي. ثمة قاصون وقاصات كتبوا/ كتبن قصة واحدة واختفوا.. أو نشروا مجموعة واحدة وتوقفوا. والكثير الذين يكتبون القصة القصيرة يقدمون قصصاً ضعيفة ولا يصح أن يطلق عليهم اسم كاتب قصة قصيرة. لكن سؤال لماذا القصة يأخذنا، كما يقول المزروعي، إلى الظروف التاريخية التي نشأت فيها الدولة، ونشأة التعليم والجامعات والمدارس، وطبيعة المجتمع في ذلك الوقت. ولا بد من النظر إلى هذا كله عند مناقشة نشوء ونمو القصة القصيرة التي جاءت متلائمة مع ظروف تأسيس الدولة. من دون أن نغفل أن الشعر بدأ قبل السرد، ولهذا أسبابه المعروفة، كما أن أغلب الجماعات التي ظهرت في جامعة العين كانت مجموعات شعرية. وفي ظني، أن القصة القصيرة نشأت ونمت بسبب قصرها، فالنَّفَس القصير مرتبط بسهولة التعبير السريع والمباشر. وهي قريبة من مفهوم اليوميات أو كتابة الخواطر التي يمكن القول إن كتابتها سهلة. وهكذا، إذا ما فكر شخص ما بتطوير هاجس الكتابة لديه سوف يجد لديه اليوميات أو الخواطر التي يعكف على تطويرها إلى قصة. يتابع المزروعي: “لو عملنا مجسات نقدية للقصة القصيرة سنجد أن هناك كتاب قصة قصيرة ضعاف جداً ولا يجوز عليهم إطلاق لقب كتاب قصة قصيرة. بالتالي حين نقول بوجود 50 قاص أو قاصة لا يكون هذا المعنى حقيقياً، ولا يشير إلى وجود هذا العدد بالفعل عند الاحتكام إلى فنية القصة القصيرة وشروطها الإبداعية. كما أن عدم تعدد الناحية الأسلوبية في القصة يوضح أن هذه القصة لم تنم بالشكل المطلوب أو لم تحقق نمواً نوعياً. بل حققت النمو على مستوى العدد، وعلى مستوى تعدد الصياغات لكنها لم تحقق التعدد الأسلوبي”. ويستدرك المزروعي: “يمكن أن نقرأ بعض التجارب المهمة في القصة، كتجربة سلمى مطر سيف، او مريم جمعة الفرج، باعتبارها قصصاً تقدم نموذجاً أسلوبياً ومفاهيم مختلفة للسرد، والعمل على آليات القص بحيث تختفي فيها فكرة الزمن الخطي. في المقابل هناك حوالي 60 إلى 70 في المئة من كتاب القصة يكتبون القصة بمفهوم الرسالة، بمعنى أن الكاتب لديه خطاب ما يحرص على إيصاله للقارئ في شكل رسالة. وأحد أهم سمات الرسالة أو خصائصها التعبيرية هو خط السرد الخطي. وبعبارات أوضح هي أقرب إلى فكرة “الحدوتة” التي نجدها لدى غالبية كتاب القصة القصيرة أكثر مما هي قصة بالمفهوم الفني. وعليه، لا يمكنني القول إن القصة القصيرة من النماذج التي تطورت لكن يمكن القول إنها موجودة على قاعدة أصلب من قاعدة الرواية رغم الـ (70) رواية الموجودة في الدولة. ويشير المزروعي بشكل خفي إلى عدم وجود البعد التراكمي في تجربة القصة، حين يقول: “إذا نظرنا إلى الكتاب الذين ظهروا في السنوات العشرة الأخيرة نجد أن ميزتهم الأساسية أنهم ليسوا أبناء للقاصين السابقين أو الجيل الأول كما يقال عادة، فالكتاب الأوائل لم يقدموا تجربة أبوية من خلال إنتاجهم لكتاب القصص الجدد. هؤلاء هم في الغالب من الذين درسوا وتعلموا وتطوروا في مناخ الانفتاح على المنجز العالمي في كل المجالات، بما في ذلك الأدب والثقافة، إنهم أبناء المعرفة الكونية، والميديا، والاتصال الفضائي. هم آباء أنفسهم، وأبوهم الحقيقي هي القصة القصيرة في العالم، ويمكن الإشارة الى بعض الأسماء (مريم السعدي، روضة البلوشي، فاطمة المزروعي، وغيرهن) هم يصدرون عن عصامية خاصة. ويختم المزروعي بأن القصة القصيرة تحتاج بالفعل إلى هكذا جدل، وأن النقاش حولها يحتاج إلى البحث عن مجسات بحثية لوضع اليد على مكامن القوة والضعف فيها، سواء على مستوى حراكها العام أو نوعها أو النقد الذي يكتب عنها، وهو في الغالب نقد يعاني إشكاليات كثيرة، تماماً كما هو النقد في العالم العربي بشكل عام. والنقاد العرب الذين كتبوا عن القصة القصيرة في الإمارات - والكلام للمزروعي - أهانوا هذه التجربة من خلال كتابتهم كلاماً جيداً عنها. ولا أدري هل كان تناولهم للنص هو المشكلة أم أنهم وقعوا في نوع من الحرج. لقد حدث هذا مع الشعر أيضاً، لكنه أقل في الحالة التشكيلية. لقد قرأ النقاد القصة على المستوى التطبيقي وعلى المستوى الوجودي، وفي هذا النوع من النقد لا يهتم الناقد بفنيات القصة وآلياتها وشخصياتها بقدر ما يبحث عن المضمون الاجتماعي او الفكري فيها. ثم إن النقاد كانوا يصطادون شخصية الخليجي من داخل القصص، وركزوا كثيراً على الفارق الزمني بين ما قبل النفط وما بعد النفط وكل هذا له علاقة بعلم الاجتماع أكثر مما له علاقة بالنقد الفني. صناديق الوعي ويقول القاص إبراهيم مبارك: “يبدو أن الصدور تحمل هماً كبيراً وحكياً كثيراً لدى الإنسان العربي. هذا صحيح في ظل أحداث كثيرة متوالية منذ فجر التاريخ العربي، وهي بين مد وجزر، بين حزن وفرح، بين هزيمة وانتصار. لقد علمتنا الجدات العربيات منذ نعومة أظافرنا بأننا آذان صاغية، لحديث كثير يدور خلف الأكمة وهو غير الحديث الذي يزبد به العامة في الشوارع والطرقات. الأحاديث التي تدور في المنازل والأماكن المغلقة أكثر أهمية وأصدق من حديث الشوارع والطرقات، لذلك لكل مستوى ومقام وحضور حديث خاص، بعضه معلن ومصرح به والآخر لا يبوح به كثير من الناس، لذلك يحتاج لوعاء يحفظه ولصندوق صدور مغلفة أو لأبواب ونوافذ يعرف البعض متى يفتحها للريح أو للذين يتأمل منهم الفهم والوعي والعمل على التغيير. ويبدو أن القصة والرواية أوعية وصناديق مهمة لحفظ الأشياء المهمة، بعيداً عن تحريف سلطة الحذف والتزييف، سواء عند الرسمي من الناس أو ذلك المحلق بعيداً عن ميادين التصفيق!!”. ويضيف مبارك: “القصة عندما يقدمها الكاتب الواعي والمدرك لأهمية العمل الإبداعي الذي لا ينشد التصفيق والجائزة أو المكانة الخاصة النفعية فإنه يمكن أن يقدم شيئاً مفيداً للناس اليوم وغداً... لذلك يختلف الإبداع من كاتب إلى آخر، يختلف الهدف والمطلوب من الاهتمام بالكتابة نفسها، سواء كانت قصة أو رواية أو بعض الشعر وللأسف لا نجد في هذا الزمن ذلك الشعر الهام والقوي الذي يشارك في الشأن العام والوطني بعد رحيل أجيال شعرية كان هدفها أبعد وأسماء من أبواق الشعر اليوم ومرتزقة المنصات والجوائز. ويرى مبارك أن “القصة فعلاً في الساحة المحلية تكاد تتسيَّد وعلى الخصوص عند الإناث، وأعتقد أن مرد ذلك أنها وعاء ومساحة كبيرة تستطيع أن تحمل حكايات الناس والمجتمع وهي راصدة للتحولات والتغيرات الدائمة في المجتمع غير أنها يمكن أن تسجل أحداثاً كثيرة من الماضي والحاضر وبصياغات كثيرة.. ويبدو أن الإنسان العربي مولع بالحكي والحديث عن ماضيه وحاضره، بل عن مشاكله الأسرية والحياتية والخاصة، وهذه المساحة يمكن شغلها بأمور كثيرة تتعلق بالزمان والمكان وكل الجوانب المادية وقد تجمعها حكاية واحدة. في القصة يكون الاختزال والتكثيف وفي الرواية السرد والأطناب وتشابك الحكايات والأزمنة والمكان. ولعلّ المرأة أكثر صبراً وتهيئة من الرجل بحكم طبيعتها وظروفها الحياتية والتزامها الجلوس في المنزل أو الأمكنة دون التزامات كثيرة أو حركة دائمة كتلك التي تكون عند الذكور وطبيعة كل جنس، ربما يكون هذا هو السبب الأقوى لتعود المرأة على السرد...”. وعن شبهة الاستسهال التي يتحدث بعضهم عنها يعلق مبارك: “عندما يبدأ الكاتب المبتدئ كتابة القصة، يعتقد أن الأمر سهل، وأن بالإمكان سرد الكثير من القصص والحكايات، ولكن بعد فترة ومراجعة يجد أنه تورط في عمل لا يمكن أن يكون بتلك السهولة والبدايات الناجحة أو المشجعة. وعندما تصبح المسألة جادة ومسؤولية تقديم العمل ومراقبته ومراجعته من الملتقي تحتاج لشيء من الاتقان والحرفية والتجديد في الأسلوب والأفكار، يبدأ الكتَّاب الشباب في التراجع، وقد يصل إلى الاختفاء أو التوقف. وعند المرأة تأتي ظروفها الخاصة والعائلية لتوقف زمن الفراغ الذي كانت تتسلى أو تستغله بالكتابة القصصية أو سرد الحكايات، لذلك يكون واضحاً اختفاء الكثير من الكتابات الأنثوية بالذات ولا تظل غير صاحبة الموهبة الحقيقية. وهنا نجد أن في البدء تكون كم الفتيات كبير وتكون لديهن حكايات خاصة من تجاربهن اليومية أو الأسرية أو حياة المجتمع، ولكن بعد فترة يختفين، أو يغادرن ساحة الثقافة والأدب إلى الحضانة أو الزوج أو الحب أو الأمومة أو العمل والأمثلة في الإمارات كثيرة.. لذلك علينا عدم التسرع في كيل المديح للجدد قبل أن يثبتوا صدق المواهب والحرص على العمل الثقافي والاندماج بصورة حقيقية ليس لتغطية وقت الفراغ والعزوبية، سواء هذا في القصة أو الشعر أو الفنون الأخرى وخاصة التشكيل والرسم والأعمال الفنية الأخرى وحتى المسرح”. لماذا القصة؟ يذهب القاص حارب الظاهري، في إجابته عن سؤال: لماذا اخترت القصة خياراً إبداعياً ووسيلة لتعبر من خلالها؟، إلى أن “القصة القصيرة من الأجناس الأدبية المهمة والقابلة للمرونة، متجددة، ولا تملي على الكاتب خاصية معقدة بل إنها ذات فضاء رحب. وأجد أنها تستوعب ما يود أحدنا البوح به وتترجم الفكرة بعمق؛ فالقص يضعك في تماس مع مكون الحياة والقصة تمنحك الرؤية الأشمل من خلال ما تقتنصه من شخوص وأمكنة وفانتازيا. إنها البوح الأجمل من خلال الأبداع الرحب”. أما لماذا تتجه المرأة للكتابة القصصية، فيعتقد الظاهري أن السبب يعود، ربما، إلى أن الشعر على مر العصور كان يتشح بثوب الرجال على نطاق اشمل بينما كان بروز المرأة فيه قليل. ولكننا الآن نرى المرأة شاعرة وكاتبة وروائية مما يعني أنها تجاوزت أنوته التعبير وانفتحت على شهية القص كونه اقرب لرؤاها وفضاءها ومكونها الذاتي”. أما القاص محسن سليمان الذي بدأ في كتابة الشعر والخاطرة فقد انحاز الى القصة القصيرة كشكل فني بعد أن كتب الشعر ولم يلتفت أحد إلى ما يكتبه، ثم وجد واحدة من خواطره تأخذ طريقها إلى النشر. يقول: “عرفت أن هذا الشكل هو الأنسب بالنسبة لي لكي أصل إلى القراء. فقررت أن أطور نفسي في هذا النوع من الكتابة. عكفت على إحدى الخواطر لأكتبها وإذ بها تولد بين يديّ قصة قصيرة، ومن هنا بدأت رحلتي مع القصة”. ويعتقد سليمان أن كتابة القصة مختلفة عن كتابة الشعر والرواية، لكن ليس لأنها أسهل فالقصة لها فنيات ومعايير لا بد من الحرص عليها لإنجاز قصة جيدة، وإنما لأنها لا تستغرق الوقت والجهد الذي تحتاجه الرواية على سبيل المثال، كما أنها مريحة ولا تستدعي الالتزام بشكل معين او بوزن وقافية كما هو الحال مع الشعر. القصة تكتب في وقت قصير بينما الرواية تحتاج إلى تفرغ وأن يعكف الكاتب عليها لكي ينجزها. أعتقد ان القصة توائم العصر أكثر رغم ما يقال عن كون هذا الزمن زمن الرواية”. ويلفت سليمان إلى أسباب أخرى تجعل الكتاب والكاتبات يفضلون كتابة القصة القصيرة منها: إن القصة تثير المخيلة وتحفزها من خلال ما تتوفر عليه من خيال مجنح، كما أنها تمتلك الأحداث المشوقة التي يحبها القارئ، وهذا ما يجعل الإقبال على قراءتها، كما أتوقع، أكثر من فنون الأدب الأخرى.. ثم إن الإنترنت أضافت سبباً جديداً في صالح القصة القصيرة، فالمتصفح يمكن أن يقرأ قصة قصيرة على الإنترنت لكنه لن يجلس لقراءة رواية أو فصلاً طويلاً من رواية. ويعزو سليمان السبب أو الأسباب في تواجد المرأة بقوة في حقل القصة إلى طبيعة الحياة الاجتماعية لكل منهما، فالمرأة غالباً تتواجد في المنزل ولديها فرصة أو فراغ يشجعها على الكتابة. والبنات بشكل عام يملن للتعبير عن مشاعرهن وأحاسيسهن بالكتابة في دفاترهن. صحيح أن هذه تكون أقرب إلى الخواطر لكن الموهبة يمكن أن ترتقي بهذه الكتابات لتصحب إبداعاً قصصياً او شعرياً. هذا يعتمد على جدية الكاتبة ونظرتها الى موضوع الإبداع. أما الشباب ففرص قضاء الوقت أمامهم كثيرة حيث الاهتمام بالرياضة خاصة كرة القدم والرفاق والرحلات والسفر ما يأخذهم من الكتابة في حال كانوا موهوبين، أو يقصيهم عنها أصلاً في حال كانت رغبة في البوح والتعبير عن خلجات النفس”. ويؤكد سليمان أن الكاتب قد يبدأ الكتابة مستسهلاً وراغباً في الحضور والشهرة، لكنه سرعان ما يدرك أن الأمر مختلف تماماً عندما ينشر قصته ويصبح مسؤولاً عنها، ويزداد الإحساس بالمسؤولية مع كل مجموعة. ويختم قائلاً: “كثيرون يتحمسون ثم يختفون والسبب أن الكتابة لديهم لم تتحول إلى هاجس حقيقي”. ليس من السهل سرد المسوغات التي جعلت القاصة أسماء الكتبي تنحاز إلى القصة كخيار إبداعي وأسلوب للتعبير، لأن الأمر برمته يحدث هكذا بشكل تلقائي. تمر بها مواقف الحياة فتتأثر وجدانياً بعمق فتكتب قصة. وغالباً ما يحدد الحدث نفسه الشكل الذي ينكتب به: قصة أو عموداً في الصحيفة. يتداعى عندها الخيال، حسب قولها، فتكتب قصة. وتقول الكتبي إن الأعمدة التي تكتبها عن رحلاتها وأسفارها هنا وهناك فيها ملمح قصصي، بيد أنها من الواقع فيما القصة تمتح من عالم الخيال الشيء الكثير. وتعتقد أسماء الكتبي أن السفر أضاف لها الكثير إنسانياً وإبداعياً، وأنها تتعلم من كل مكان تذهب إليه، تقول: “السفر يعلّم. إنه مفيد جداً في تكوين معرفة حقيقية عن الآخر.. معرفة لا تستند إلى نظرة سابقة أو صورة نمطية. وهي معرفة تجعل الإنسان ينفتح على الآخرين ويحترم خصوصياتهم وقناعاتهم بنفس القدر الذي يطالبهم باحترام خصوصياته وقناعاته. كل هذا بلا شك ينعكس على المبدع وعيا وثقافة تبرز في نصه الذي يصبح أكثر ثراء مرة بعد مرة”. وترى الكتبي أن القصة القصيرة هي الأكثر تعبيراً عن كل ما يجول في أعماقها، وأنها من خلالها تلتقي مع بشر وثقافات وحضارات تجعل الإنسان أكثر اتساعاً وفهمه للحياة أكثر رحابة. والقصة بالنسبة إليها جزء من ذاتها، وطفولتها وأحلامها، فلطالما نسجت في صغرها القصص لتقوم ببطولتها بامتياز. تقول: “منذ كنت في السادسة من العمر وأنا أؤلف القصص والحكايات التي أقوم فيها بدور البطولة. كان خيالي خصباً وأظن أنني من الخياليين والحالمين”.