الاستثمارات الصينية... رافعة الاقتصاد الأسترالي
في هذه الأرض الحارة والنائية، وفي بلاد من الشساعة بحيث تنبه اللوحاتُ الإرشادية على الطرق السائقين إلى أن محطة الوقود التالية تبعد بنحو 600 ميل، كان علو جبل "ويلباك" يبلغ ذات مرة 1500 قدم. أما اليوم، فقد تحول إلى حفرة، بل إلى أكبر منجم مفتوح لخام الحديد في العالم، حيث هُدم جبل بكامله، وبيع وشُحن إلى الصين.
شاحنات يعادل ارتفاعها قامة رجل بالغ بمرتين، تتنـاوب على نقل آلاف الأطنان من خام الحديد إلى محطة معالجة، حيث يفرز ويصب في أطول وأثقل قطار في العالم - 336 مقطورة شحن تجرها ست قاطرات- يقطع مسافة 300 ميل إلى ميناء هيدلاند، حيث تفرغ الحمولة في سفن متجهة إلى مصانع الفولاذ الشرهة في الجمهورية الشعبية. أكثر من 300 مليون طن من خام الحديد في السنة وكميات هائلة من الغاز الطبيعي المسال تُشحن إلى الصين، وهو ما دفع البعض إلى القول إن الصين بصدد شراء أستراليا. غير أن واحدة من أكبر عمليات نقل الموارد الطبيعية أغنت أستراليا وأخافتها في الوقت نفسه، وأدت إلى رد حازم من واشنطن، وأبرزت غلاظة ودهاء الصين معا في وقت تعمل فيه على توسيع نفوذها بشراسة عبر العالم.
اليوم، أصبحت الصين الصاعدة أول شريك تجاري لأستراليا، فقد ضخت ما قيمته 40 مليار دولار من الاستثمارات في الاقتصاد الأسترالي خلال الأشهر الثمانية عشر الأخيرة فقط، حيث يساهم الطلبة الصينيون الـ70 ألفا في تمويل النظام التعليمي الأسترالي، بينما يحافظ نصف مليون سائح صيني في السنة على وظائف الأستراليين كمنقذيين على شواطئ السباحة وموزعي أوراق اللعب في الكازينوهات وسماسرة عقارات. والواقع أن التجارة والاستثمارات الصينية حمت أستراليا من الأزمة المالية العالمية أكثر من أي دولة متقدمة أخرى، بل إن أستراليا تتحدث الصينية، إذ يُعد رئيس الوزراء "كيفن رود" أول زعيم غربي يتحدث الصينية بطلاقة.
وفي هذا السياق، يقول "تشين جي"، أستاذ العلاقات الدولية بجامعة "ويسترن أستراليا"، والذي هاجر إلى أستراليا من الصين قبل 20 عاما: "إن الصين بصدد إعادة صنع النسيج السياسي والاجتماعي لهذا البلد... إن الصين تُدخل نفسها في المجتمع". غير أن كل هذه العلاقات لم تشترِ للصين حباً كبيراً في أستراليا، حيث تُظهر استطلاعات الرأي التي أُجريت خلال السنوات الخمس الماضية أن الأستراليين باتوا حذرين بشكل متزايد تجاه العملاق الصيني. وفي هذا السياق، سعى "رود"، بموازاة مع احتضانه التجارة الصينية، إلى إحداث توازن بخصوص علاقات بلده مع بكين عبر تعزيز العلاقات الدبلوماسية والعسكرية مع حليفة أستراليا القديمة، الولايات المتحدة.
وفي أبريل، أعلنت حكومة "رود" عن أكبر عملية تطوير عسكري منذ الحرب العالمية الثانية، في وقت أشار فيه تقرير لوزارة الدفاع بكل وضوح إلى أن الصين هي السبب.
وفي هذا الإطار يقول "آندرو شيرَر"، الذي عمل مستشاراً للأمن القومي في عهد رئيس الوزراء الأسترالي السابق جون هاورد: "بينما تزداد علاقاتنا التجارية متانة مع الصين، فإننا نعتقد أنه من الضروري أن يتخذ المرء احتياطاته في هدوء". وأوضح أن صعود الصين كان عاملًا أساسيا في هذا القرار -الذي اتخذ في عهد هاورد واستمر تحت إشراف "رود" للاقتراب أكثر من الولايات المتحدة، مضيفاً: "إننا نرى هذا التفكير والتوجه اليوم عبر آسيا". غير أن التردد الأسترالي يحير الصينيين إلى حد كبير، حيث قال "زو فينج"، وهو محلل صيني، لصحيفة أسترالية مؤخراً: "عندما انتُخب "رود"، كان الكثيرون يتوقعون أن تنشأ بين البلدين علاقة أكثر متانة نتيجة لذلك، لأنه يعرف الصين جيداً ويتحدث الصينية"، مضيفاً "ولكنها ظلت مقتصرة على المستوى التجاري فقط".
وربما لا توجد مدينة تعكس طفرة الصين أكثر من بُرث، عاصمة "أستراليا الغربية"، وهي ولاية تعادل مساحتها ضعف مساحة ولاية تكساس بخمس مرات وتزخر بالجزء الأهم من ثروة أستراليا المعدنية. فقد قفز متوسط دخل هذه الولاية بـ10 آلاف دولار في ظرف خمس سنوات إلى أكثر من 70 ألف دولار، بفضل مشتريات الصين من خام الحديد والغاز الطبيعي وموارد أخرى. وفي "برث"، بلغ متوسط سعر منزل 500 ألف دولار، ولا يتعدى معدل البطالة فيها 2.6 في المئة، علماً بأن المعدل الوطني هو 5.5 في المئة، ومن المتوقع أن ينخفض هذا العام - والفضل في ذلك يعود في المقام الأول إلى الصين.
وبغض النظر عن الأرقام، فإن "بُرث" تبدو مدينة صينية، حيث تنتشر في أفق المدينة الرافعات وناطحات السحاب، وتضم أكثر من مليار دولار من المشاريع الجديدة، ومن ذلك مستشفى ومتحف وطرق سريعة ومكاتب ومجمع شاسع مغطى للرياضة والترفيه.
وفي هذه الأثناء، ينتقل أكثر من 110 أشخاص إلى "ويسترن أستراليا" كل يوم، مما يجعلها أسرع ولاية نمواً في أستراليا؛ ومع ذلك، فإنه مازال ثمة نقص في العمالة، فعلى سبيل المثال، يتقاضى سائقو الشاحنات العاملون في المناجم راتباً سنوياً يبلغ 100 ألف دولار، ويتقاضى حارس بوابة أحد المناجم 80 ألف دولار في السنة.
وعلى صعيد الولاية، تحوِّل المشاريع التي تفوق قيمتها 95 مليار دولار اقتصادَ المنطقة وتساهم في انتقال تاريخي للقوة من "أستراليا القديمة" - في محيط فيكتوريا و"نيو ساوث ويلز" في الجنوب الشرقي، إلى أستراليا الغنية بالموارد الطبيعية في الشمال.
ينشر بترتيب خاص مع خدمة «واشنطن بوست»
المصدر: أستراليا