لبنان: العدالة مقابل السلام!
ما تزال عملية اغتيال رفيق الحريري يوم 14 فبراير 2005 في لبنان لغزاً محيّراً بالنسبة لكثير من اللبنانيين. ولكن يتوقع أن يُّحلّ هذا اللغز من قبل محكمة الأمم المتحدة الخاصة بلبنان خلال الأسابيع القليلة المقبلة. ولذا كان ترقب لائحة الاتهام خلال الشهور القليلة الماضية، بينما عرفت البلاد "استقراراً" سياسيّاً هشّاً يعتقد كثيرون أنه فُرِض بجهود أطراف خارجية.
وعلى رغم أن البعض أملوا أن يحافظ التنسيق السعودي السوري على الاستقرار السياسي، إلا أن استقالة أحد عشر وزيراً مؤخراً من تحالف "8 آذار" أسقط الحكومة. وقد جاءت الاستقالة بعد الفشل في التوصل إلى تسوية في مواجهة قرار اتهام محكمة الأمم المتحدة الخاصة بلبنان. وسؤال اللحظة اليوم هو: هل يستطيع لبنان الآن تجنب اندلاع صراع عنيف داخلي آخر؟
لقد عرف تاريخ لبنان اغتيال شخصيات سياسية وحكم على شعبه باضطرابات مستمرة. وقد أصبحت الاغتيالات التي لم تُحَلّ ألغازها ظاهرة منتظمة، ولذا سجل مسؤولون أصحاب سطوة وسياسيون بارعون أو اقتصاديون أصحاب تأثير على قائمة ضحايا جرائم الاغتيال السياسي. وبغض النظر عن الدين أو الخلفية أو الانتماء السياسي، يشترك هؤلاء الأشخاص ذوو النفوذ في نفس المصير: الموت على يد قاتل مسلّح أو "حادث" مروري أو انفجار هائل.
وللتذكير فإن لبنان يمثل فسيفساء من المجتمعات المحلية ذات الطوائف المختلفة ولذا يرتبط الناس بقوة بالقادة الدينيين. وبهذه الطريقة يبقى الانتماء الديني هو أهم هوية عند معظم اللبنانيين، وكذلك تدعي كل طائفة أن ما تراه هو المناسب للبلاد.
لقد نتج عن اغتيال الحريري والمحكمة الدولية انقسام سياسي في لبنان، ومع احتمال اتهام أعضاء من "حزب الله" بالضلوع في جريمة الاغتيال، أصبح معظم السياسيين من معسكري "14 آذار" التابع لسعد الحريري و"8 آذار" التابع لـ"حزب الله" حذرين في تصريحاتهم فيما يتعلق بالاتهام. وأبدى حتى أشد منتقدي سوريا وخصوم "حزب الله" تحولاً سياسيّاً كاملاً، ملمحين إلى إمكانية إلغاء المحكمة الدولية واستبدالها بتسوية تتجنب صدور أية اتهامات علنية.
ومن المعروف أن اللجوء إلى القوى الأجنبية ممارسة تقليدية في السياسة اللبنانية كوسيلة لإعادة التوازن في الاختلافات الداخلية. ومنذ عام 2009، سارت دول داعمة لقوى "14 آذار" على طريق التقارب مع سوريا، التي تدعم معسكر "8 آذار". وحاولت السعودية وسوريا الحفاظ على اتفاقية الدوحة، التي تعطي الأولوية للاستقرار الداخلي.
وقد نشط سعد الحريري في دعم المحكمة الدولية، وتبرز سياسة عدم الوصول إلى صفقة أو إلى حل وسط تفانيه في التوصل إلى الحقيقة القضائية. وعند كشف الاتهام، إن تم ذلك، ومن المتوقع أن يسمي أعضاء من "حزب الله" كمتهمين، فستنفتح بذلك أمام الحريري ثلاثة خيارات: قبول لائحة الاتهام، وفي هذا مخاطرة بإغراق لبنان في دوامة كبيرة. أو دعم انسحاب لبنان من المحكمة الدولية، وهو على علم تام بأن انسحابه لن يوقف تقدم المحكمة، ومن ثم الانسحاب من السياسة. أما الخيار الثالث، فهو مساءلة الإثباتات والبراهين التي تملكها المحكمة الدولية.
ليس هناك من سبيل قانوني لإيقاف اتهام المحكمة الدولية، التي ستكشف دونما شك أكثر من لاعب واحد. ولذا فإن الحل القابل للبقاء يرتكز على فك الارتباط والصبر والتعاون. وإذا كانت البراهين غير حاسمة فإنها ستوحّد الأطراف اللبنانية المختلفة في المطالبة بمزيد من الإثباتات.
والحقيقة أن حلاً ينبغي أن يأتي من داخل لبنان. وكلما ازداد دور بعض القوى الخارجية، كلما ازداد حجم المأزق، مما يحوّل جريمة اغتيال الحريري إلى مجرد جريمة أخرى لم تُحلّ في تاريخ لبنان. أو بمعنى آخر تكريس مقولة: السلام ثمناً للعدالة.
ماريا - ريتا قسيس
محللة سياسية مهتمة بشؤون الشرق الأوسط
ينشر بترتيب مع خدمة "كومون جراوند"