عندما خرجنا من المغارة المنهارة في جبال الأنديز، وجدنا أنفسنا في الجهة الأخرى من الجبل البركاني الذي كنا نبحث في مغاراته ودهاليزه عن بقايا حضارة الانكا أو كنوز رهبانها·· وعوضاً عن الكنوز، لم نجد غير روائح الكبريت والمخاطرة بأرواحنا، وبأن ندفن أحياء تحت أنقاض هذا البركان الخامد منذ أكثر من أربعين عاماً· وقفتُ أستكشف المكان بعد أن خرجتُ من الحفرة التي تمكنت من إيجادها في سقف النفق المتصل بالمغارة الرئيسية في الجبل البركاني، الأرض عشبية منبسطة تحيط بها الجبال من الجهات الأربع، الهدوء والسكينة والظلام تخيم على المكان، لم يعد لدينا لا طعام ولا معدات من أجل أن نقيم معسكرنا· الدكتور كريتشر لا يزال حانقا، وزاد من غضبه فشل مهمته الاستكشافية وهو قد يلقى باللوم عليَّ لأنني انضممت إلى فريقه رغما عنه· لن يتذكَّر أبدا أنني السبب في نجاته من مأزق المغارة المنهارة عليه هو وفريقه بعد أن هرب دليله وحمالوه ولا نعرف مصيرهم·· وأهم ما في الموضوع هو أن الدكتور كريتشر لم يحمل معه أدوات اتصال عبر الأقمار الصناعية، وكل ما لدينا هواتف متحركة لا فائدة منها في مثل هذا المكان الذي يخلو من أي إرسال لا سلكي· المغامرة هدوء الليل جميل والقمر ساطع، لكنني أعرف أن هذا الجمال لن يستمر، فعما قريب سيكتنف الضباب والظلام كل المكان، ويصبح المكان مرعبا، لقد عايشت مثل هذه الاجواء مرة من قبل في رحلتي الاستكشافية السابقة عندما كنت منفرداً في بحثي عن المغامرة في قرى الجنوب، ونحن الآن في شرق بيرو حيث تفصلنا هذه الجبال عن غابات نهر الأمازون، في تلك الغابات توجد قبائل بدائية لا يستبعد أن يكون بعض منها من أكلة لحوم البشر، هكذا كنت أقول لأعضاء الفريق الاستكشافي الشباب، غير أن الدكتور كريتشر قاطعني غاضبا، بأنه لا داعي لإخافة الشباب فيكفي ما لاقوه اليوم من تعب ومخاطر، وإذا كان لديك بقية طاقة فاستغلها في البحث عن طعام·· طبعاً لم يكن لديَّ بقية طاقة، وليس لدي حل لمشكلة نقص الطعام، فنحن وسط الغابات والجبال، وهذه المنطقة لا يوجد بها حتى حيوانات يمكننا أن نصيدها لنأكلها، وهذا ليس أمرا سيئا، فعدم وجود حيوانات في هذه المنطقة أمر مريح فذلك يعني عدم وجود حيوانات مفترسة أيضا، مما يعني أننا يمكننا أن نبيت الليلة هنا في العراء؛ فليس بالإمكان أن نفعل أكثر من ذلك· الليل طويل لا يزال في أوله، ويبدو أن هذه الليلة ستكون أطول مما نتوقع، خصوصا وأن الدكتور كريتشر غاضب وهو لا يريدنا أن نضحك أو أن نقصر الوقت بالقصص والأحاديث· شروق الشمس لم أنم جيدا في تلك الليلة، وفي الصباح الباكر كان شروق الشمس رئعا وهو يخرج من بين الجبال ناشرة الضوء الذي يبدِّد الضباب، ويكشف لنا عن المكان، على الأقل لنعرف الاتجاهات، ونحدد مكاننا، فقد كنا نسير طوال أمس في دهاليز مظلمة في المغارة المنهارة مما خلق لدينا نوعا من عدم الإحساس بالاتجاهات قد يكون أثرها خطيرا، فلا نعرف العودة إلى الميناء الذي سنتمكن من العودة منه إلى أقرب مدينة أو قرية· كان علينا أن نتحرك سريعا؛ فلا وجود لأي مبرر لبقائنا فترة أطول في هذا المكان واختلفنا في أي الاتجاهات نتحرك، الدكتور كريتشر يريد أن نلتف حول الجبل البركاني الذي تسلقناه من جهة اليمين معتقدا أن الطريق أقصر إلى الميناء، وأنا كنت أرجح الالتفاف إلى جهة اليسار فهي الاقرب في نظري، غير أن بقية الفريق طبعا سيتبع رئيسه الدكتور كريتشر، وهكذا كان وسلكنا اليمين·· قلتُ للدكتور كريتشر: فقط للتسجيل أن الطريق الذي اقترحته أسهل وأسرع، فأنظر إلى الجبال في تلك الجهة إنها أقل ارتفاعا، بل إن بينها ممرات سنتمكن من المرور بها، وتذكر أنك تتجه إلى الشمال في هذه الحالة باتجاهك إلى اليمين مما يعني أن هناك مرتفعات جبلية ثلجية، ربما سيكون علينا تجاوزها من أجل أن نصل إلى أقرب مكان مأهول بالسكان· وتذكر أيضا أننا لا نملكُ طعاماً، ولن نصمد كثيرا بدون طاقة، خصوصا إذا كان ذلك في مرتفعات تغطيها الثلوج· غير أن الدكتور كريتشر عنيد ويصمم على رأيه وليس بين فريقه الشاب من يستطيع التأثير عليه، ناهيك عن غروره الذي يمنعه من تحكيم صوت العقل، وهكذا وجدت نفسي اتبعهم مرغما رغم عدم ارتياحي للأمر· مشينا على نحو التفافي حول الجبل البركاني، غير أنه، بعد عدة كيلو مترات تقريبا، صارت الدائرة التي نسير فيها متسعة جدا، ذلك أن الفريق يحاول تفادي تسلق المرتفعات الجبلية، ولكن ذلك لن يفيد وسيغير خط سيرنا، وداهمتني المخاوف من أننا نسير شرقا أكثر من اللازم، السير شرقاً سيدخلنا إلى غابات الأمازون مما يعني أننا سنتوه لا محالة· المرتفعات الجبلية كان لابد أن نتسلق المرتفعات الجبلية باتجاه الغرب خشية أن نضيع الوقت، ويحل الظلام علينا سريعا ونحن لم نحرز تقدما، وصرنا نتجاوز المرتفعات كلما وجدنا أخدودا منخفضا لنسلكه، غير أنني تعبت من المشي، وكذلك غالبية شباب الفريق، وبدأنا نبحث عن الطعام، أي شيء لنأكله كفيل بمدنا بشيء من الطاقة· في استراليا وقبل سنوات تعلَّمتُ أساليب الصراع من أجل البقاء، كيف تحصل على الطعام في بيئة جافة أو في غابة، وكيف توقد نارا بالحجارة، وكيف تتعرَّف على النباتات والثمار السامة من غيرها، وهكذا وجدتني محتاجا إلى تذكُّر كل تلك المهارات التي تعلمتها ذات يوم في صحراء غرب استراليا· تناولنا شيئا من الثمار التي لم أرها في حياتي، وربما لا يأكلها البشر أصلا، لكن طعمها ليس سيئا بالرغم من لونها البني الغامق· على أي حال هي تشبه التمرة لكن تغطيها قشرة خارجية ويؤكل اللب الداخلي· بهذه الثمار تمكنا من مواصلة الطريق طوال اليوم، متجاوزين غابات وجداول ومرتفعات، ووصلنا إلى نهر واسع لن نتمكَّن من عبوره حتى سباحة بسبب تياره الجارف، وكان من الحكمة أن نسير بمحاذاته وباتجاه التيار فهو حتما سيوصلنا إلى الميناء الذي دخلنا منه أصلا إلى هذه المغامرة غير المحسوبة· مشينا طويلا، لكن على الأقل هذه المرة يوجد ماء عذب يمكننا أن نشربه، وثمة أسماك نهرية يمكننا أن نصطادها لو ترك لنا الدكتور كريتشر فرصة للاستراحة، غير أنه يفضل مواصلة المسير خشية أن يضطر إلى المبيت ليلة اخرى في العراء· وصلنا إلى الميناء الصغير البائس والشمس في الشفق، لا يوجد أحد هنا في مثل هذا الوقت، لكن على الأقل يمكننا أن نمضي الليلة في هذه المحطة فهي أفضل من المبيت في العراء· ولا بد أن يأتي قارب ما في صباح اليوم التالي، وإلا فعلينا أن نبحث عن أماكن يكون فيها التيار هادئاً لنعبر منه إلى الضفة الأخرى· اصطدنا سمكا، وأشعلنا نارا، أنا وإدوارد ومانويل وانتوني، وسهرنا على ضوء النار بانتظار الصباح حتى نكمل الرحلة إلى الضفة الأخرى بأي طريقة، وربما نمنا في وقت ما قبل منتصف الليل·