إنه التضخم !
تمكن محمود عن طريق الامتناع عن التدخين وركوب سيارات الأجرة ومشاهدة السينما وأكل الشطائر خارج البيت والزواج .. تمكن من ادخار بضعة آلاف من الجنيهات في المصرف..
كان مبلغاً صغيراً لكنه كذلك كبير في آن واحد. وقد بدأ يشعر بالرضا عن نفسه وعن مستقبله. حتى أنه بدأ يفكر في إمكانية الزواج.. لم لا؟.. إنه في الخامسة والثلاثين وشكله غير منفر..
كان راضياً كما قلت حتى جاء أحد العارفين ببواطن الأمور، ليقول له في ثقة:
ـ «التضخم»!
ماذا عن التضخم؟..
ـ «اليوم معك ألف جنيه.. بعد عامين تكون القيمة الشرائية لهذا المال قريبة من مائتي جنيه.. بعد عامين آخرين ستكون قيمة المال غير كافية لشراء قطعة بسكويت»!
هكذا أصابه الرعب.. مثلما يشعر من ينزف بأن الحياة تتسرب منه، لم يعد قادراً على الحياة وهو يدرك أنه ينزف مالاً في كل ثانية تمر..
ـ «والعمل»؟
ـ «لا يوجد حل سوى العقارات.. كل يوم يمر يزيد من سعرها».
هكذا لم يعد ينام..
يأتي له أحد السماسرة ليخبره بوجود قطعة أرض صالحة في البلدة الفلانية.. يقال إن سعرها سيرتفع. هكذا يسافر إلى هناك ويمضي يوماً كاملاً يدرس الموقف، ويعود غير قادر على اتخاذ قرار.. التردد.. الألم.. الشعور بالخديعة.. الشعور بضياع الوقت.. الشعور بالظلم.. لماذا لا يقدم له أحدهم أفضل فرصة في العالم ولا يطلب شيئاً في المقابل؟.. هذا ظلم..
هنا يدق الهاتف.. صديق له يخبره بوجود شقة ممتازة في الشارع الفلاني.. يرتدي ثيابه ويهرع إلى هناك .. لو ابتاع هذه الشقة لما عاد قادراً على شراء الأرض... لكن الشقة كبيرة وخالية من عنصر المخاطرة، ولن يكون عليك توقيع 578801 ورقة إدارية كما يحدث مع الأرض..
ينام الليل قلقاً .. غداً سوف يسحب معظم ماله ويذهب مع المحامي لإتمام هذه الصفقة. في الصباح قبل الذهاب للمصرف يأتيه سمسار آخر:
ـ«وزارة الزراعة طرحت أرضاً رخيصة في مجتمع عمراني جديد.. ما زال الأمر سراً ويجب أن نتحرك قبل أن يذاع».
هكذا تعتل صحته ويصفر لونه ويصير أقرب إلى مصاصي الدماء. لا يأكل بتاتاً ولا ينام.. ويسافر إلى تلك البقعة ليرى الفرصة التي تتيحها وزارة الزراعة، يمضه الشعور بأنه كان سيضيع ماله في ما لا طائل من ورائه لو تصرف قبل هذا.. الأدهى أنه يعرف أن هناك في مكان ما يوجد عرض مذهل لا يعرف عنه شيئاً.. الآخرون يعرفون عنه كل شيء ولا يخبرونه.. الأوغاد يريدون الخير كله لأنفسهم ولا يقاسمونه.. كلهم سيصيرون أثرياء بينما يتسول هو لقمة خبز في الأزقة..
ـ «هناك شقق رخيصة في شارع»....
أو:
ـ «هل تصرفت؟... لحسن الحظ أنك لم تفعل.. هناك أرض للاستصلاح في بلدة.....»
لقد صارت حياته جحيماً.. لهذا عندما قابلته ذلك اليوم وقلت له:
ـ «هناك أرض ممتازة في ............»
انفجر صائحاً:
ـ «اخرس!.. لا تقل لي أي شيء!.. لا أريد أن أعرف»!
ثم فتح الجريدة فقرأ خبرًا عن تدهور واضح في رأس مال المصرف الذي يودع فيه أمواله. صاح في فرح:
ـ «فليفلس!... أدعو الله أن يفلس هذا المصرف لأستريح!.. لماذا لا توجد هنا عمليات سطو على المصارف كالتي نراها في الأفلام الأميركية»؟
نظرت له في حيرة.. لابد أن هناك قصة طويلة تبرر كلامه هذا، لكن وقتي لا يتسع لسماعها. في عالمنا لو كنا سنصغي لكل هراء نسمعه، فلن نجد وقتاً لأي شيء آخر.